فصل: تفسير الآيات رقم (100- 104)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏94- 95‏]‏

‏{‏وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ ‏(‏94‏)‏ كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ ‏(‏95‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏ولما جاء أمرنُا‏}‏‏:‏ عذابنا لقوم شعيب، ‏{‏نجينا شعيباً والذين آمنوا معه برحمة منا‏}‏، لا بعمل استحقوا به ذلك؛ إذ كل من عنده، ‏{‏وأخذت الذين ظلموا الصيحةُ‏}‏ قيل‏:‏ صاح بهم جبريل فهلكوا، ‏{‏فأصبحوا في ديارهم جاثمين‏}‏‏:‏ ميتين‏.‏ وأصل الجثوم‏:‏ اللزوم في المكان‏.‏ ‏{‏كأن لم يَغْنَوا فيها‏}‏ كأن لم يقيموا فيها ساعة، ‏{‏ألا بعْداً لمدين كما بَعِدَتْ ثمودُ‏}‏، شبههم بهم؛ لأن عذابهم كان أيضاً بالصيحة، غير أن صيحة ثمود كانت من فوق، وصيحة مدين كانت من تحت، على ما قيل، ويدل عليه‏:‏ التعبير عنهما بالرجفة في آية أخرى‏.‏ والرجفة في الغالب إنما تكون من ناحية الأرض‏.‏ وفي البيضاوي خلاف هذا، وهو غير جَيد‏.‏

قال قتادة‏:‏ بعث الله شعيباً إلى أمتين‏:‏ أصحاب الأيكة، وأصحاب مدين، فأهلك أصحاب الأيكة بالظلة، على ما يأتي، وأما أهل مدين فصاح بهم جبريل صيحة؛ فهلكوا أجمعين‏.‏ قيل‏:‏ وآمن بشعيب من الفئتين‏:‏ تسعمائة إنسان‏.‏ وكان أهل الأيكة أهل غيطة وشجر، وكان شجرهم الدَّوْم وهو شجر المُقْل‏.‏

الإشارة‏:‏ سبب النجاة من الهلاك في الدارين‏:‏ توحيد الله، وتعظيم من جاء من عند الله‏.‏ وسبب الهلاك‏:‏ الإشراك بالله، وإهانة من عظمه الله‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏96- 99‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ ‏(‏96‏)‏ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ ‏(‏97‏)‏ يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ ‏(‏98‏)‏ وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ ‏(‏99‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏ولقد أرسلنا موسى بآياتنا‏}‏؛ بمعجزاتنا الدالة على صدقه، ‏{‏وسلطان مبين‏}‏؛ وتسلط ظاهر على فرعون، أو برهان بيِّن على نبوته‏.‏ قال البيضاوي‏:‏ والفرق بينهما‏:‏ أن الآية تعم الأمارة والدليل القاطع، والسلطان يخص بالقاطع، والمبين يخص بما فيه جلاء‏.‏ ه‏.‏ أرسلناه ‏{‏إلى فرعون وملئه‏}‏؛ جماعته، ‏{‏فاتبعوا أمرَ فرعون‏}‏ أي‏:‏ اتبعوا أمره بالكفر بموسى، أو‏:‏ فما اتبعوا موسى الهادي إلى الحق، المؤيد بالمعجزات القاهرة الباهرة، واتبعوا طريقة فرعون المنهمك في الضلالة والطغيان، الداعي إلى ما لا يخفى فساده على من له أدنى مسكة من العقل؛ لفرط جهالتهم، وعدم استبصارهم، ‏{‏وما أمرُ فرعون برشيد‏}‏ أي‏:‏ ليس أمره برشد وصواب، وإنما هو غي وضلال‏.‏

‏{‏يَقْدُمُ قومَه يوم القيامة‏}‏ إلى النار، كما يتقدم في الدنيا إلى الضلال، ‏{‏فأوردهم‏}‏‏:‏ أدخلهم ‏{‏النار‏}‏ ذكره بلفظ الماضي؛ مبالغة في تحققه، ونزّل النار لهم منزلة الماء، فسمى إتيانها مورداً ثم قال‏:‏ ‏{‏وبئس الورد المورود‏}‏ أي‏:‏ بئس المَوْرد الذي وردوه، فإنَّ المورد إنما يراد لتبريد الأكباد، وتسكين العطش، والنار بضد ذلك‏.‏ والآية كالدليل على قوله‏:‏ ‏{‏وما أمر فرعون برشيد‏}‏؛ فإنَّ من هذا عاقبته لم يكن في أمره رشد، أو تفسير له، على أن المراد بالرشيد‏:‏ ما يكون مأمون العاقبة حميدها‏.‏ قاله البيضاوي‏.‏ ‏{‏وأتبعوا في هذه لعنةً ويومَ القيامة‏}‏ أي‏:‏ تتبعهم اللعنة في الدارين ‏{‏بئس الرفدُ المرفود‏}‏‏:‏ بئس العون المعان، أو العطاء المعطى‏.‏ فالرفد‏:‏ العطاء، والإرفاد‏:‏ المعونة، ومنه‏:‏ رفادة قريش، أي‏:‏ معونتهم للفقراء في الحج بالطعام‏.‏ والمخصوص بالذم محذوف، أي‏:‏ رفدهم، وهو اللعنة في الدارين‏.‏

الإشارة‏:‏ إذا أردتَ أن تعرف قدر الرجل في مرتبة الخصوصية؛ فاسأل عن إمامه الذي يقتدى به، فإن كان من أهل الخصوصية فصاحبه من الخصوص، إن دامت صحبته معه، وإن كان من العموم فصاحبه من العموم‏.‏ والمراد بالخصوصية‏:‏ تحقيق مقام الفناء، ودخول بلاد المعاني‏.‏ فكل من لم يحصل مقام الفناء، ولم يشهد إلا المحسوسات فهو من العوام، ولو بلغ من العلم والعمل ما بلغ، ولو رأى من الكرامات أمثال الجبال‏.‏ فمن صحب مثل هذا الذي لم يفن عن نفسه، ولم يخرج عن دائرة حسه، لم يخرج من العمومية؛ لأن نفسه فرعونية‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما أمر فرعون برشيد‏}‏، وفي الخبر‏:‏ «المَرْءُ على دين خليله» وقال الشاعر‏:‏

عن المرءِ لا تسأل وسَلْ عن قرينه *** فكلُّ قرينٍ بالمُقارَنِ يَقْتَدي

والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏100- 104‏]‏

‏{‏ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ ‏(‏100‏)‏ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آَلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ ‏(‏101‏)‏ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ‏(‏102‏)‏ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآَخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ ‏(‏103‏)‏ وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ ‏(‏104‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏(‏ذلك‏)‏‏:‏ مبتدأ‏.‏ و‏(‏من أنباء‏)‏‏:‏ خبر، و‏(‏نقصه‏)‏‏:‏ خبر ثان‏.‏ وجملة‏:‏ ‏(‏منها قائم وحصيد‏)‏‏:‏ استئنافية لا حالية؛ لعدم الرابط‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ النبأ الذي أخبرناك به في هذه السورة، هو ‏{‏من أنباء القرى‏}‏ الماضية المهلَكة، ‏{‏نقصه عليك‏}‏، ونخبرك به؛ تهديداً لأمتك وتسلية لك‏.‏ ‏{‏منها‏}‏ ما هو ‏{‏قائم‏}‏ البناء باقي الأثر، ‏{‏و‏}‏ منها ‏{‏حصيد‏}‏ أي‏:‏ محصود عافي الأثر، كالزرع المحصود‏.‏ أو‏:‏ منها ما هو ساكن بقوم آخرين، قائم العمارة بغير من هلك، ومنها ما هو دارس عفى أثره، واندرست أطلالُه‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما ظلمناهم‏}‏ بإهلاكنا إياهم، ‏{‏ولكن ظلموا أنفسهم‏}‏ بأن عرضوها له؛ بارتكابهم ما يوجب هلاكهم، فعبدوا معي غيري، ‏{‏فما أغنت عنهم‏}‏‏:‏ ما نفعتهم، ولا قدرت أن تدفع عنهم العذاب، ‏{‏آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء‏}‏ من ذلك العذاب، ‏{‏لما جاء أمر ربك‏}‏؛ حين جاءهم عذابه ‏{‏وكذلك أخذُ ربك‏}‏ أي‏:‏ مثل ذلك الأخذ الوبيل أخذ ربك ‏{‏إذا أَخَذَ القرى وهي ظالمةٌ‏}‏ فلا يمهلها، وقد يمهلها ثم يأخذها‏.‏ فكل ظالم معرض لذلك‏.‏ وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم «إنَّ اللَّهَ ليُمْلِي للظَّالِمِ، حَتى إِذا أَخَذَهُ لَمْ يُفلِتْهُ» ثم قرأ‏:‏ ‏{‏وكذلك أخذ ربك‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ فالآية تعم قرى المؤمنين؛ حيث عبَّر بظالمة دون كافرة‏.‏ قاله ابن عطية‏.‏ ‏{‏إن أخذه أليم شديد‏}‏؛ وجيع عظيم، غير مرجو الخلاص منه، وهو مبالغة في التهديد والتحذير‏.‏

‏{‏إن في ذلك‏}‏ الذي نسرده عليك من قصص الأمم الدارسة، ‏{‏لآية‏}‏؛ لعبرة ‏{‏لمن خاف عذابَ الآخرة‏}‏ فيعتبر به ويتعظ؛ لعلمه بأن ما خاق بهم أنموذج مما أعد الله للمجرمين في الآخرة‏.‏ وأما من أنكر الآخرة فلا ينفعه هذا الوعظ والتذكير؛ لفساد قلبه، وموت روحه‏.‏

‏{‏ذلك‏}‏ أي‏:‏ يوم القيامة الذي وقع التخويف به، ‏{‏يوم مجموعٌ له الناسُ‏}‏‏:‏ محشورون إليه أينما كانوا‏.‏ وعبَّر باسم المفعول دون الفعل؛ للدلالة على الثبوت والاستقرار، ليكون أبلغ؛ لأن «مجموع» أبلغ من «يجمع»‏.‏ ‏{‏وذلك يوم مشهود‏}‏ أي‏:‏ تشهده أهل السماوات وأهل الأرض؛ لفصل القضاء، ويحضره الأولون والآخرون، لاقتضاء الثواب والعقاب‏.‏ فاليوم مشهود فيه، فحذف الظرف اتساعاً‏.‏‏.‏ ‏{‏وما نُؤخره إلا لأَجلٍ معدود‏}‏ أي‏:‏ إلا لانتهاء مدة معدودة في علم الله، لا يتقدم ولا يتأخر عنها، قد اختص الله تعالى به‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ التفكر والاعتبار من أفضل عبادة الأبرار؛ لأنه يزهد في الدنيا الفانية، ويشوق إلى دار الباقية، ويرقق القلب، ويستدعي مخافة الرب، فلينظر الإنسان بعين الاعتبار في الأمم الخالية، والقرون الماضية، والأماكن الدارسة؛ كيف رحل أهلها عن الدنيا أحوج ما كانوا إليها، وتركوها أحب ما كانت إليهم‏؟‏ وفي بعض الخطب الوعظية‏:‏ أين الفراعين المتكبرة، وأين جنودها المعسكرات‏؟‏ أين الأكاسير المنكسرة‏؟‏ وأين كنوزها المقنطرات‏؟‏ أين ملكوك قيصر والروم‏؟‏ وأين قصورها المشيدات‏؟‏ أين ملوك عدن‏؟‏ أهل الملابس والحيجان‏؟‏ وأين ملوك اليمن، أهل العمائم والتيجان‏؟‏ قد دارت عليهم والله الأقدار الدائرات، وجرت عليهم برياحها العاصفات، وأسكنتهم تحت أطباق الرجام المنكرات، وصيرت أجسامهم طعمة للديدان والحشرات، وأيمت منهم الزوجات، وأيتمت منهم البنين والبنات‏.‏ أفضوا إلى ما قدموا، وانقادوا قهراً إلى القضاء وسلموا‏.‏ فلا ما كانوا أملوا أدركوا، ولا إلى ما فاتهم من العمل الصالح رجعوا‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏105- 108‏]‏

‏{‏يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ ‏(‏105‏)‏ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ ‏(‏106‏)‏ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ‏(‏107‏)‏ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ‏(‏108‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏(‏يوم يأتي‏)‏‏:‏ العامل في الظرف‏:‏ «لا تكلم»، أو‏:‏ اذكر، مضمر‏.‏ والضمير في «يأتي»‏:‏ يعود على اليوم‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ يعود على «الله»؛ لعود الضمير عليه في قوله‏:‏ ‏(‏إلا بإذنه‏)‏، وضمير «منهم» على أهل الموقف المفهوم من قوله‏:‏ ‏(‏لا تكلم نفس‏)‏‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏يوم يأتي‏}‏ ذلك اليوم المشهود، وهو‏:‏ يوم الجزاء ‏{‏لا تكلم‏}‏؛ لا تتكلم ‏{‏نفس‏}‏ بما ينفع وينجي في جواب أو شفاعة ‏{‏إلا بإذنه‏}‏ تعالى، وهذا كقوله‏:‏ ‏{‏لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحما‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 38‏]‏، وهذا موقف، وقوله ‏{‏هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ‏}‏ ‏[‏المرسلات‏:‏ 35 38‏]‏، في موقف آخر‏.‏ والمأذون فيه هي الجوابات الحقية، أو الشفاعات المرضية، والممنوع منه هي الأعذار الباطلة‏.‏

ثم قسّم أهل الموقف، فقال‏:‏ ‏{‏فمنهم شقي‏}‏ وجبت له النار بمقتضى الوعيد؛ لكفره وعصيانه‏.‏ ‏{‏و‏}‏ منهم ‏{‏سعيد‏}‏ وجبت له الجنة بمقتضى الوعد؛ لإيمانه وطاعته‏.‏ ‏{‏فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق‏}‏، الزفير‏:‏ إخراج النفس، والشهيق‏:‏ رده‏.‏ ويستعملان في أول النهيق وآخره‏.‏ أو الزفير‏:‏ صوت المحزون، والشهيق‏:‏ صوت الباكي‏.‏ أو الزفير من الحلق، والشهيق من الصدر‏.‏ والمراد بهما‏:‏ الدلالة على شدة الكرب والغم، وتشبيه حالهم بمن استولت الحرارة على قلبه، وانحصرت فيه روحه، أو تشبيه حالهم بأصوات الحمير‏.‏ قاله البيضاوي‏.‏

‏{‏خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض‏}‏ أي سماوات النار وأرضها‏.‏ وهي دائمة أبداً، ويدل عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض والسماوات‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 48‏]‏، أو يكون عبارة عن التأبيد‏:‏ كقوله العرب‏:‏ ما لاح كوكب وما ناح الحمام، وشبه ذلك بما يقصد به الدوام، وهذا أصح‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إلا ما شاء ربك‏}‏، للناس هنا كلام واختلاف‏.‏ وأحسن ما قيل فيه؛ ما ذكره البقاعي، قال‏:‏ والذي ظهر لي والله أعلم أنه لما تكرر الجزم بالخلود في الدارين، وأن الشرك لا يغفر، والإيمان موجب للجنة، فكان ربما يُظن أنه لا يمكن غير ذلك، كما ظنه المعتزلة، لا سيما إذا تأمل القطع في مثل قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 48‏]‏، مع تقييد غيره بالمشيئة في قوله‏:‏ ‏{‏وَيَغفِر مَا دُونَ ذََلِكَ لِمَن يَشَآءُ‏}‏ جاء هذا الاستثناء معلماً أن الأمر فيه إلى الله كغيره من الأمور، له أن يفعل في كلها ما يشاء، وإن جُزم القوم فيه، لكنه لا يقع غير ما أخبره به، وهذا كما تقول‏:‏ اسكن هذه الدار عمرك ألا ما شاء زيد، وقد لا يشاء زيد شيئاً‏.‏ فكما أن التعليق بدوام السماوات والأرض غير مراد الظاهر، كذلك الاستثناء فلا يشاء الله قطع الخلود لأحد من الفريقين، وسوقه هكذا أدل على القدرة وأعظم في تقليد المنة‏.‏

ه‏.‏

وقال الجلال السيوطي، في «البدور السافرة في أمور الآخرة»‏:‏ اعلم أن للعلماء في هذا الاستثناء أقوالاً، أشبهها بالصواب‏:‏ أنه ليس باستثناء، وإنما «إلا»‏.‏ بمعنى «سوى» كما تقول‏:‏ لي عليك ألف درهم إلا ألفان، التي لي عليك، أي‏:‏ سوى الألفين، والمعنى‏:‏ خالدين فيها قدر مدة السماوات والأرض في الدنيا سوى ما شاء ربك من الزيادة عليها، فلا منتهى له‏.‏ وذلك عبارة عن الخلود‏.‏ والنكتة في تقديم ذكر مدة السماوات والأرض‏:‏ التقريب إلى الأذهان بذكر المعهود أولاً‏.‏ ثم أردفه بما لا إحاطة للدهر به، والجري على عادة العرب في قولهم في الإخبار عن دوام الشيء وتأبيده‏:‏ لا آتيك ما دامت السماوات والأرض‏.‏ ه‏.‏ ومثله لابن عطية‏.‏ قال‏:‏ ويؤيده هذا التأويل قوله بعدُ‏:‏ ‏{‏عطاء غير مَجذُوذ‏}‏ أي‏:‏ غير مقطوع، وهذا قول الفراء، فإنه يقدر الاستثناء المنقطع بسوى، وسيبويه بلكن‏.‏ ه‏.‏ وقال الورتجبي‏:‏ قال ابن عطاء‏:‏ ‏{‏إلا ما شاء ربك‏}‏ من الزوائد لأهل الجنة من الثواب‏.‏ ومن الزوائد لأهل النار من العقاب‏.‏ ه‏.‏ ‏{‏إن ربك فعال لما يريد‏}‏ من غير حجر ولا اعتراض‏.‏

‏{‏وأما الذين سُعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك‏}‏ كما تقدم‏.‏ ‏{‏عطاء غير مَجْذُوذٍ‏}‏‏:‏ غير مقطوع، وهو تصريح بأن الثواب غير مقطوع، وتنبيه على أن المراد من الاستثناء تعليم الأدب فقط‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ السعادة على قسمين‏:‏ سعادة الظاهر، وسعادة الباطن‏.‏ والشقاو ة كذلك‏.‏ أما سعادة الظاهر ففي الدنيا بالراحة من التعب، وفي الآخرة بالنجاة من العذاب‏.‏ وأما سعادة الباطن ففي الدنيا براحة القلب من كد الهموم والأحزان، واليقين والاطمئنان، في حضرة الشهود والعيان، وفي الآخرة بدوام النظر، في مقعد صدق عند مليك مقتدر‏.‏ وشقاوة الظاهر باتصال الكد والتعب‏.‏ وشقاوة الباطن بالبعد عن الله، وافتراقه عن حضرة مولاه‏.‏

قال في نوادر الأصول‏:‏ الشقاوة‏:‏ فراق العبد من الله، والسعادة اندساسه إليه‏.‏ ه‏.‏ وقال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه في حزبه الكبير‏:‏ والسعيد من أغنيته عن السؤال منك، والشقي حقاً من حرمته مع كثرة السؤال لك‏.‏

قال شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن الفاسي في حاشيته عليه‏:‏ ومدار السعادة‏:‏ الجمع على الله والغيبة عمن سواه، فيفنى العبد عن وجوده، ويبقى بربه، فيشغله استغراقه في شهوده عن الشعور بغيريته، وينمحي عنه أمل شيء يرجى، أو خوف شيء يُتقى، فليس له عن سوى الحق إخبار، ولا مع غيره قرار‏.‏ وعندما حل بهذه الحضرة، وظفر بقُرة عينه، وحياة روحه، وسر حياته، لا يتصور منه سُول، ولا فوات مأمول، «أنت مع الأكوان ما لم تشهد المكون، فإذا شهدته كانت الأكوان معك»، «اشْتَاقَتْ الجَنَّةُ إِلى عَليِّ وعَمَّارٍ وسَلمَانَ وصهيب وبلال» كما في الأثر‏.‏

نعم، إن رد إليه تصور منه الدعاء على وجه العبودية، وأداء الأمر وإظهار الفاقة، لا على وجه الاقتضاء والسببية‏.‏ «جل حكم الأزل أن ينضاف إلى الأسباب والعلل»‏.‏

ثم قال‏:‏ وعلى ما تقرر في السعادة، فالشقاوة‏:‏ احتجاب العبد بوجوده عن شهوده، فلا يَنفَكُّ عن أمل، ولا عن خوف عطب‏.‏ فيستحثه الطبع للسؤال جلباً أو دفعاً‏.‏ وهو في ذلك في شقاء، سواء أعطى أو منع؛ لفقده قرةَ عينه وراحة قلبه، لأسْره في طبعه، ومكابدة أمره وهلعه‏.‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الإنسان خُلِقَ هَلُوعاً إِذَا مَسَّهُ الشر جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الخير مَنُوعاً إِلاَّ المصلين‏}‏ ‏[‏المعارج‏:‏ 19 22‏]‏، فلم يستثن من كد الطبع ومكابدته غير أهل الصلاة الدائمة، وهم أهل الوجهة لله، المواجَهين بعناية الله، المتحققين بذكر الله‏.‏ وقد وَرَدَ‏:‏ «هُمُ القَوْم لاَ يَشْفَى جَلِيسُهُم» فضلاً عنهم‏.‏ وعلى الجملة‏:‏ فالمراد بالسعادة والشقاوة في كلامه أي الشاذلي الباطنة لا الظاهرة، والقلبية لا القالبية‏.‏ وإن كان قد تطلق على ذلك أيضاً، لكن لكل مقام مقال‏.‏ وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَنِ اتبع هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يشقى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 123‏]‏‏.‏

قال في نوادر الأصول‏:‏ تَابعُ القرآن قد أجير من شقاء العيش في الدنيا؛ لراحة قلبه من غموم الدنيا وظلماتها، وسَيره في الأمور بقلبه في راحة؛ لأنه منشرحُ الصدر واسعه، وبدنه في راحة؛ لأنه ميسر عليه أمور الدنيا، تُهيأ له في يسر؛ لضمان الله، واكتنافه له‏.‏ وكذا يجار في الآخرة من شقاء العيش في سجون النيران‏.‏ أعاذنا الله من ذلك‏.‏ ه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏109‏]‏

‏{‏فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آَبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ ‏(‏109‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏فلا تك‏}‏ يا محمد ‏{‏في مرية‏}‏‏.‏ في شك ‏{‏مما يعبد هؤلاء‏}‏ المشركون، أي‏:‏ لا تشك في فساد ما هم فيه، بعد ما أنزل عليك من حال الناس، وتبيين ما لأهل السعادة الموحدين، مما لأهل الشقاء المشركين، ‏{‏ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم من قبلُ‏}‏، وهو تعليل للنهي، أي‏:‏ ما يعبدون عبادةً إلا كعبادة آبائهم‏.‏ أو ما يعبدون شيئاً إلا مثل ما عبد آباؤهم من الأوثان؛ تقليداً من غير برهان، وقد بلغك ما لحق آبائهم من العذاب فسيلحقهم مثل ذلك؛ لاتفاقهم في سبب الهلاك‏.‏ ‏{‏وإنا لموفوهم نصيبهم‏}‏ حظهم من العذاب، كآبائهم، ‏{‏غير منقوص‏}‏ من نصيبهم شيء‏.‏ فالتوفية لا تقتضي التمام، تقول‏:‏ وفيته حقه، وتريد وفاء بعضه‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ فلا تكن أيها العارف في مرية مما يعبد هؤلاء العوام، من جمع الدنيا، والتكاثر منها، وصرف الهمة إلى تحصيلها، واستعمال الفكر في أسباب جمعها، وانهماك النفس في حظوظها وشهواتها‏.‏ ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم من قبل، ممن سلك هذا المسلك الذميم، وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص بانحطاط درجتهم عن درجة المقربين‏.‏ قال بعض الحكماء‏:‏ دار الدنيا كأحلام المنام، وسرورها كظل الغمام، وأحدثها كصوائب السهام، وشهواتها‏:‏ كمشرب الشمام، وفتنتها كأمواج الطوام‏.‏ ه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏110- 111‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ ‏(‏110‏)‏ وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ‏(‏111‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏وإنَّ كلاًّ لما ليوفينهم‏}‏‏:‏ إن‏:‏ مخففة عاملة، والتنوين في ‏(‏كُلا‏)‏ عوض عن المضاف‏.‏ و«ما»‏:‏ موصولة، واللام‏:‏ لام الابتداء، و‏{‏ليوفينهم‏}‏‏:‏ جواب لقسم محذوف، وجملة القسم وجوابه‏:‏ صلة «ما»، أي‏:‏ وإن كل الفريقين للذين، والله ليوفينهم ربك أعمالهم‏.‏ ومن قرأ‏:‏ «لمَّا»؛ بالتشديد، فعلى أن ‏(‏إن‏)‏ نافية، و«لما» بمعنى إلا، وقيل‏:‏ غير هذا‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏ولقد آتينا موسى الكتاب‏}‏‏:‏ التوراة، ‏{‏فاختُلف فيه‏}‏؛ فآمن به قوم وكفر به قوم، كما اختلف هؤلاء في القرآن، ‏{‏ولولا كلمة سبقت من ربك‏}‏ وهي‏:‏ كلمة الإنظار إلى يوم القيامة، ‏{‏لقُضي بينهم‏}‏ بإنزال ما يستحقه المبطل من الهلاك، ونجاة المحق‏.‏ ‏{‏وإنهم‏}‏ أي‏:‏ قوم موسى، أو كفار قومك، ‏{‏لفي شك منه‏}‏ أي‏:‏ التوراة، أو من القرآن، ‏{‏مريب‏}‏‏:‏ موقع في الريبة، ‏{‏وإنَّ كلاَّ‏}‏ من الفريقين المختلفين، المؤمنين والكافرين، للذين ‏{‏ليوفينهم ربك‏}‏ جزاء أعمالهم، ولا يهمل منه شيئاً ‏{‏إنه بما يعملون خبير‏}‏ فلا يفوته شيء منه وإن خفي‏.‏

الإشارة‏:‏ الاختلاف على الأنبياء والأولياء سنة ماضية‏.‏ ولولا أن الله سبحانه حكم في سابق علمه أنه لا يفضح الضمائر إلا يوم تُبلى السرائر، لفضح أسرار البطالين‏.‏ وأظهر منار الذاكرين من السائرين أو الواصلين‏.‏ لكنه سبحانه أخر ذلك بحكمته وحلمه، إلى يوم الدين‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏112- 115‏]‏

‏{‏فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏112‏)‏ وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ ‏(‏113‏)‏ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ ‏(‏114‏)‏ وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏115‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏(‏ومن تاب‏)‏‏:‏ عطف على فاعل ‏(‏استقم‏)‏؛ للفصل، ‏(‏فَتَمَسَّكُمُ‏)‏‏:‏ جواب النهي‏.‏ ويقال‏:‏ ركن يركن‏:‏ كعَلِم يعلم، وركن يركن‏:‏ كدخل يدخل، و‏(‏ثم لا تنصرون‏)‏‏:‏ مستأنف لا معطوف، و‏(‏طرفي‏)‏‏:‏ منصوب على الظرفية‏.‏ و‏(‏زلفاً‏)‏، كقربة، أزلفه‏:‏ قربة‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏فاستقمْ‏}‏ يا محمد ‏{‏كما أُمرت‏}‏، ‏{‏و‏}‏ ليستقم ‏{‏من تابَ معك‏}‏ من الكفر وآمن بك‏.‏ وهي شاملة للاستقامة في العقائد، كالتوسط بين التشبيه والتعطيل، بحيث يبقى العقل مصوناً من الطرفين، وفي الأعمال؛ من تبليغ الوحي، وبيان الشرائع كما أنزل، والقيام بوظائف العبادات من غير تفريط ولا إفراط‏.‏ وهي في غاية العسر‏.‏ ولذلك قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «شَيَّبَتنِي هُود» قاله البيضاوي‏.‏

قال المحشي الفاسي‏:‏ واللائق أن إشفاقه عليه الصلاة والسلام من أجل أمته لا من أجل نفسه؛ لأجل نفسه؛ لأجل عصمته، وإنما أشفق عليهم لتوعد اللعن لهم بقوله‏:‏ ‏{‏لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 16‏]‏‏.‏ ه‏.‏ قلت‏:‏ ولا يعبد أن يكون أشفق عليه الصلاة والسلام من صعوبة استقامته التي تليق به، فبقدر ما يعلو المقام يطلب بزيادة الأدب، وبقدر ما يشتد القرب يتوجه العتاب‏.‏ ولذلك كان الحق تعالى يعاتبه على ما لا يعاتب عليه غيره‏.‏ وقد قالوا‏:‏ حسنات الأبرار سيئات المقربين‏.‏ وقد تقدم كلام الإحياء في قوله‏:‏ ‏{‏أَلا بُعداً لِعَادٍ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 60‏]‏‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تَطْغَوا‏}‏؛ ولا تخرجوا عما حد لكم، ‏{‏إنه بما تعملون بصير‏}‏، فيجازيكم على النقير والقطمير، وهو تهديد لمن لم يستقم، وتعليل للأمر والنهي‏.‏ ‏{‏ولا تركنوا إلى الذين ظلموا‏}‏‏:‏ لا تميلوا إليهم أدنى ميل؛ فإن الركون‏:‏ هو الميل اليسير، كالتزيي بزيهم، وتعظيم ذكرهم، وصحبتهم من غير تذكيرهم ووعظهم‏.‏ ‏{‏فتمسَّكم النارُ‏}‏؛ لركونهم إليهم‏.‏ قال الأوزاعي‏:‏ ما من شيء أبغض إلى الله تعالى من عَالِم يَزورُ عَاملاً‏.‏ ه‏.‏ وقال سفيان‏:‏ في جهنم وادٍ لا يسكنه إلا القراء الزائرون للملوك‏.‏ ه‏.‏ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من دَعَا لِظَالٍمٍ بالبَقَاءِ أي بأن قال‏:‏ بارك الله في عمرك فَقَدْ أَحَبَّ أَنْ يُعْصَى الله في أرضهِ» وسئل سفيان عن ظالم أشرف على الهلاك في برية، هل يسقى شربة ماء‏؟‏ فقال‏:‏ لا‏.‏ فقيل له‏:‏ يموت‏؟‏‏!‏ فقال‏:‏ دعه يموت‏.‏ ه‏.‏ وهذا إغراق ولعله في الكافر المحارب، والله أعلم‏.‏

قال البيضاوي‏:‏ وإذا كان الركون إلى من وجد منه ما يسمى ظلماً موجباً للنار، فما ظنك بالركون إلى الظالمين الموسومين بالظلم، ثم الميل إليهم، ثم بالظلم نفسه، والانهماك فيه‏.‏ ولعل الآية أبلغ ما يتصور في النهي عن الظلم والتهديد عليه‏.‏ وخطاب الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين بها؛ للتثبيت على الاستقامة التي هي العدل؛ فإن الزوال عنها بالميل إلى أحد طرفي إفراط أو تفريط، ظلم على نفسه أو غيره، بل ظلم في نفسه‏.‏

ه‏.‏

‏{‏وما لكم من دون الله من أولياء‏}‏؛ من أنصار يمنعون العذاب عنكم، ‏{‏ثم لا تُنصرون‏}‏‏:‏ ثم لا ينصركم الله إن سبق في حكمه أنه يعذبكم‏.‏

ولمَّا كان الركون إلى الظلم، أو إلى من تلبس به فتنة، وهي تكفرها الصلاة، كما في الحديث، أمر بها أثره، فقال‏:‏ ‏{‏وأقم الصَّلاةَ طرفي النهار‏}‏ غدوة وعشية، ‏{‏وزلُفاً من الليل‏}‏؛ ساعات منه قريبة من النهار‏.‏ والمراد بالصلاة المأمور بها‏:‏ الصلوات الخمس‏.‏ فالطرف الأول‏:‏ الصبح، والطرف الثاني‏:‏ الظهر والعصر، والزلف من الليل‏:‏ المغرب والعشاء، ‏{‏إن الحسنات يُذهبن السيئات‏}‏؛ يكفر بها قال ابن عطية‏:‏ لفظ الآية عام في الحسنات خاص في السيئات؛ لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ما اجتنَبت الكَبَائِرُ» ثم قال‏:‏ وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «الجُمُعَةُ إلى الجُمعَةِ كفَّارَة، والصَّلوَاتُ الخَمسُ، وَرَمَضانُ إِلى رَمَضانَ كفاره لِمَا بينَهُما ما اجتُنِبت الكبائر» انظر تمامه في الحاشية‏.‏

قال ابن جزي‏:‏ رُوي أن رجلاً قََبّل امراة، قلتُ‏:‏ هو نبهان التمار، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم وصلَّى معه الصلاة، فنزلت الآية، فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أين السائل‏؟‏» فقال‏:‏ ها أنا ذا، فقال‏:‏ «قدغَفَرَ اللَّهُ لَكَ بِصَلاتِكَ مَعَنا» فقال الرجل‏:‏ أَلِيَ خاصَّةً، أو للمسلمين عامة‏؟‏ فقال‏:‏ «للمسلمين عَامَّةً» والآية على هذا مدنية‏.‏ وقيل‏:‏ إن الآية كانت قبل ذلك، وذكرها النبي صلى الله عليه وسلم للرجل مستدلاً بها‏.‏ والآية على هذا مكية كسائر السورة، وإنما تُذهب الحسناتُ عند الجمهور الصغائر إذا اجتنبت الكبائر‏.‏ ه‏.‏ قلت‏:‏ وقيل‏:‏ تكفر مطلقاً؛ اجتُنِبَت الكبائر أم لا، وهو الظاهر، لأنه إذا حصل اجتناب الكبائر كفرت بلا سبب؛ لقوله تعالى ‏{‏إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 31‏]‏ الآية‏.‏ وقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «ما اجتنبت الكبائر» معناه‏:‏ أن الصلوات والجمعة مكفرة لما عدا الكبائر‏.‏

والحاصل‏:‏ أن من اجتنب الكبائر كفرت عنه الصغائر بلا سبب؛ لنص الآية‏.‏ ومن ارتكب الكبائر والصغائر وصلى، كفرت الصغائر دون الكبائر، وبهذا تتفق الآية مع الحديث‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

قال ابن عطية في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله اشترى‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 111‏]‏ الآية‏:‏ الشهادة ماحية لكل ذنب إلا لمظالم العباد‏.‏ وقد روي‏:‏ «أن الله يتحمل عن الشهيد مظالم العباد، ويجازيهم عنه»‏.‏ ختم الله لنا بالحسنى‏.‏ انتهى‏.‏

‏{‏ذلك‏}‏ أي‏:‏ ما تقدم من وعظ ووعد ووعيد، وأمر الاستقامة، أو القرآن كله، ‏{‏ذكرى للذاكرين‏}‏‏:‏ عظة للمتقين‏.‏ وخص الذاكرين، لمزيد انتفاعهم بالوعظ، لصقالة قلوبهم‏.‏ وفي الخبر‏:‏ «لكل شيء مصقلة، ومصقلة القلوب ذكر الله»‏.‏ ‏{‏واصبرْ‏}‏ على مشاق الاستقامة، ودوامها ‏{‏فإن الله لا يُضيع أجرَ المحسنين‏}‏ وهم‏:‏ أهل الاستقامة ظاهراً وباطناً‏.‏

الإشارة‏:‏ الاستقامة على ثلاثة أقسام‏:‏ استقامة الجوارح، واستقامة القلوب، واستقامة الأرواح والأسرار‏.‏ أما استقامة الجوارح فتحصل بكمال التقوى، وتحقيق المتابعة للسنة المحمدية‏.‏ وأما استقامة القلوب فتحصل بتطهيرها من سائر العيوب، كالكبر والعجب، والرياء، والسمعة، والحقد والحسد، وحب الجاه والمال، وما يتفرع عن ذلك من العداوة والبغضاء، وترك الثقة بمجيء الرزق، وخوف سقوط المنزلة، من قلوب الخلق، والشح والبخل، وطول الأمل، والأشر والبطر، والغل والمباهاة، والتصنع والمداهنة، والقسوة والفظاظة والغلظة، والغفلة، والجفاء، والطيش، والعجلة، والحمية، وضيق الصدر، وقلة الرحمة‏.‏ إلى غير ذلك من أنواع الرذائل‏.‏

فإذا تطهر القلب من هذه العيوب اتصف بأضدادها من الكمالات‏:‏ كالتواضع لله، والخشوع بين يديه، والتعظيم لأمره، والحفظ لحدوده، والتذلل لربوبيته، والإخلاص في عبوديته، والرضى بقضائه، ورؤية المنة له في منعه وعطائه‏.‏ ويتصف فيما بين خلقه بالرأفة والرحمة، واللين والرفق، وسعة الصدر والحِلم، والاحتمال والصيانة، والنزاهة والأمانة، والثقة والتأني، والوقار، والسخاء والجود، والحياء، والبشاشة والنصيحة‏.‏ إلى غير ذلك من الكمالات‏.‏

وأما استقامة الأرواح والأسرار، فتحصل بعدم الوقوف مع شيء سوى الله تعالى، وعدم الالتفات إلى غيره حالاً كان أو مقاماً أو كرامة، أو غير ذلك‏:‏ كما قال الششتري رضي الله عنه‏:‏

فلا تلْتَفِت في السَّير غيراً، وكلُّ ما *** سوى الله غيرٌ، فاتخذ ذِكرَه حِصنا

وكلُّ مقامٍ لا تُقمْ فيهِ إنّه *** حجابٌ، فجد السَّير واستَنجد العونا

ومهما ترى كلًّ المراتِبِ تجْتَلِي *** عليكَ فحلْ عنها، فعَن مثلها حُلنا

وقُلْ‏:‏ ليس لي في غَير ذاتِكَ مَطلبٌ *** فلا صورةُ تُجلى ولا طُرفة تُجنا

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تركنوا إلى الذين ظلموا‏}‏‏:‏ هو نهي عن صحبة الغافلين والميل إليهم‏.‏ قال بعض الصوفية‏:‏ قلب لبعض الأبدال‏:‏ كيف الطريق إلى التحقيق، والوصول إلى الحق‏؟‏ قال‏:‏ لا تنظر إلى الخلق؛ فإن النظر إليهم ظلمة، قلت‏:‏ لا بد لي، قال‏:‏ لا تسمع كلامهم؛ فإن كلامهم قسوة‏:‏ قلت‏:‏ لا بد لي، قال‏:‏ لا تعاملهم؛ لأن معاملتهم خسران وحسرة ووحشة، قلت‏:‏ أنا بين أظهرهم لا بد لي من معاملتهم‏؟‏ قال‏:‏ لا تسكن إليهم؛ فإن السكون إليهم هلكة‏.‏ قلت‏:‏ هذا لعله يكون‏؟‏ قال‏:‏ يا هذا، أتنظر إلى اللاعبين، وتسمع كلام الجاهلين، وتعامل البطالين، وتسكن إلى الهلكى، وتريد أن تجد حلاوة الطاعة، وقلبك مع غير الله عز وجل‏!‏‏!‏ هيهات‏!‏ هذا ما لا يكون أبداً‏.‏ ه‏.‏ ونقل الورتجبي عن جعفر الصادق‏:‏ ولا تركنوا إلى نفوسكم فإنها ظلمَة‏.‏ ه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏116- 117‏]‏

‏{‏فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ ‏(‏116‏)‏ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ‏(‏117‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏(‏لولا‏)‏‏:‏ تحضيضة، ويقترن بها هنا معنى التفجع والتأسف، كقوله‏:‏ ‏{‏ياحسرة عَلَى العباد‏}‏ و«إلا قليلاً» منقطع، ولا يصح اتصاله، إلا إذا جعل استثناء من النفي اللازم للتحضيض‏.‏ أي‏:‏ ما كان في القرون الماضية أولو بقية إلا قليل‏.‏ يقال‏:‏ فلان من بقية القوم، أي‏:‏ خيارهم، وإنما قيل فيه «بقية»؛ لأن الشرائع والدول تقوى أولاً ثم تضعف‏.‏ فمن ثبت في وقت الضعف على ما كان في أوله، فهو بقية الصدر الأول‏.‏ قاله ابن عطية‏.‏ وقوله‏:‏ «بظلم»‏:‏ حال من «ربك»؛ أي‏:‏ ما كان ربك ليهلك القرى ظالماً لهم، أو متعلق بيُهلك‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏فلولا‏}‏ فهلا ‏{‏كان من القرون من قبلكم‏}‏؛ كقوم نوح وعاد وثمود ومن تقدم ذكرهم، ‏{‏اُولوا بقية‏}‏ من الرأي، والعقل يُنكرون عليهم، أي‏:‏ فهلا وجد فيهم من فيه بقية من العقل والحزم والثبوت، ‏{‏ينهون عن الفساد في الأرض‏}‏، لكن قليلاً ممن أنجينا منهم كانوا كذلك، فأنكروا على أهل الفساد، واعتزلوهم في دينهم؛ فأنجيناهم‏.‏ وفي هذا تحريض على النهي عن المنكر والأمر بالمعروف، وأنه سبب النجاة في الدارين‏.‏ ‏{‏واتَّبع الذين ظلموا ما أُترفوا فيه‏}‏‏:‏ ما أنعموا فيه من الشهوات، واهتموا بتحصيل أسبابها، وأعرضوا عما وراء ذلك، ‏{‏وكانوا مجرمين‏}‏ كافرين‏.‏ قال البيضاوي‏:‏ كأنه أراد أن يُبين ما كان السبب لاستئصال الأمم الماضية‏:‏ وهو‏:‏ فشو الظلم فيهم، واتباع الهوى، وترك النهي عن المنكرات مع الكفر‏.‏ ه‏.‏

‏{‏وما كان ربك ليُهلك القرى بظلم‏}‏ أي‏:‏ متلبساً بظلم، ‏{‏وأهلُها مصلحون‏}‏، فيعذبهم بلا جرم، أي‏:‏ ما كان ليعذبهم ظالماً لهم بلا سبب‏.‏ أو ما كان ليهلك القرى بشرك وأهلها مصلحون فيما بينهم، لا يضمون إلى شركهم فساداً وبغياً، وذلك لفرط رحمته ومسامحته في حقوقه‏.‏ ومن ذلك قدَّم الفقهاءُ، عند تزاحم الحقوق، وحقوقَ العباد، وقال بعضهم‏:‏ ‏[‏الذنوب ثلاثة‏:‏ ذنب لا يغفره الله، وهو الشرك، وذنب لا يعبأ الله به، وهو ما كان بينه وبين عباده، وذنب لا يتركه الله، وهو حقوق عباده‏]‏‏.‏ وقالوا‏:‏ قد يبقى المُلك مع الشرك ولا يبقى مع الظلم‏.‏

الإشارة‏:‏ أولو البقية الذين ينهون عن الفساد في الأرض هم‏:‏ أهل النور المخزون المستودع في قلوبهم من نور الحق، إذا قابلوا منكراً دمغوه بالحال أو المقال، وإذا قالوا فساداً أصلحوه، وإذا قالوا فتنة أطفؤوها‏.‏ وإذا قابوا بدعة أخمدوها، واجهوا ضالاً أرشده، أو غافلاً ذكروه، أو طالباً للوصول وصلوه، يمشون في الأرض بالنصيحة، لا يخافون في الله لومة لائم‏.‏ أولئك لهم الأمن وهم مهتدون‏.‏

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «والذي نفس محمد بيده لئن شئتم لأُقسمن لكم‏:‏ إنَّ أحَبَّ عباد اللَّهِ إلى الله الذين يُحببون الله إلى عباده، ويحببون عباد الله إلى الله، ويمشون في الأرض بالنصيحة»

أما كونهم يحببون الله إلى عباده، فلأنهم يَذكرون لهم آلاءه وإحسانه وبره‏.‏ والنفسُ تحب بالطبع من أحسن إليها‏.‏ وأما كونهم يحببون عباد الله إلى الله؛ فلأنهم يردونهم عن غيهم وحظوظهم، التي تبعدهم عن ربهم‏.‏ فإذا رجعوا إليه أحبهم‏.‏

وسئل ذو النون المصري رضي الله عنه عن وصف الأبدال، فقال‏:‏ سألتَ عن دياجي الظلام؛ لأَكشفُ لك عنهم، وهم قوم ذكروا الله بقلوبهم، تعظيماً لربهم؛ لمعرفتهم بجلاله، فهم حجج الله تعالى على خلقه، ألبسهم الله تعالى النور الساطع من محبته، ورفع لهم أعلام الهداية إلى مواصلته، وأقامهم مقام الأبطال لإرادته، وأفرغ عليهم من مخافته، وطهَّر أبدانهم بمراقبته، وطيبهم بطيب أهل معاملته، وكساهم حُللاً من نسج مودته، ووضع على رؤوسهم تيجان مبرته، ثم أودع القلوب من ذخائر الغيوب، فهي متعلقة بمواصلته، فهممهم إليه ثائرة، وأعينهم بالغيب ناظرة، قد أقامهم على باب النظر من رؤية، وأجلسهم على كراسي أطباء أهل معرفته، ثم قال لهم‏:‏ إن أتاكم عليلٌ مَنْ فقدي فداووه، أو مريض من فراقي فعالجوه، أو خائف مني فانصروه، أو من آمن مني فحذِّروه، أو راغب في مواصلتي فمنُّوه، أو راحل نحوي فزودوه، أو جبان في متاجرتي فشجعوه، أو آيسٌ من فضلي فرجّوه، أو راج لإحساني فبشروه، أو حسن الظن بي فباسطوه، أو محب لي فواصلوه، أو معظم لقدرتي فعظموه، أو مسيء بعد إحساني فعاتبوه، أو مسترشد فأرشدوه‏.‏ ه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏118- 119‏]‏

‏{‏وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ‏(‏118‏)‏ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ‏(‏119‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ الاستثناء من ضمير «يزالون»‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏ولو شاء ربك لجعل الناسَ أمةً واحدة‏}‏، متفقين على الإيمان أو الكفران، لكن مقتضى الحكمة وجود الاختلاف؛ ليظهر مقتضيات الأسماء في عالم الشهادة؛ فاسمه‏:‏ الرحيم يقتضي وجود من يستحق الكرم والرحمة، وهم‏:‏ أهل الإيمان‏.‏ واسمه‏:‏ المنتقم والقهار يقتضي وجود من يستحق الاتنقام والقهرية، وهم أهل الكفر والعصيان‏.‏ قال البيضاوي‏:‏ وفيه دليل ظاهر على أن الأمر غير الإرادة، وأنه تعالى لم يرد الإيمان من كل أحد، وأن ما أراد يجب وقوعه‏.‏ ه‏.‏

‏{‏ولا يزالون مختلفين‏}‏؛ بعضهم على الحق، وهم أهل الرحمة والكرم؛ وبعضهم على الباطل، وهم أهل القهرية والانتقام‏.‏ أو مختلفين في الأديان والملل والمذاهب، ‏{‏إلا من رَّحِمَ ربك‏}‏؛ إلا ناساً هداهم الله من فضله، فاتفقوا على ما هو أصل الدين والعمدة فيه، كالتوحيد والإيمان بجميع الرسل وبما جاؤوا به، وهم المؤمنون‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ولذلك خلقهم‏}‏؛ إن كان الضمير للناس، فالإشارة إلى الاختلاف، واللام للعاقبة، أي‏:‏ ولتكون عاقبتهم الاختلاف خلقهم، وإن كان الضمير يعود على «من»، فالإشارة إلى الرحمة، أي‏:‏ إلا من رحم ربك وللرحمة خلقه‏.‏ ‏{‏وتمت كلمة ربك‏}‏ الأزلية على ما سبق له الشقاء، أي‏:‏ نفذ قضاؤه ووعيده في أهل الشقاء، أو هي قوله للملائكة‏:‏ ‏{‏لأَملأَنِّ جهنم من الجَنَّة والناس أجمعين‏}‏؛ أي من أهل العصيان منهما، لا من جميعهما‏.‏

الإشارة‏:‏ الاختلاف بين الناس حكم أزلي، لا محيدَ عنه‏.‏ وقد وقع بين أهل الحق وبين أهل الباطل‏.‏ فقد اختلف هذه الأمة في الأصول والفروع‏.‏ أما الأصول فأهل توحيد الدليل وقع بينهم تخالف في صفات الحق، كالمعتزلة والقدرية والجهمية والجبرية مع أهل السنة‏.‏ وأما الفروع فالاختلاف بينهم شهير‏.‏ فقد كان في أول الإسلام اثنا عشر مذهباً‏.‏ ولا تجد علماً من علوم إلا وبين أهله اختلاف، إلا أهل التوحيد الخاص، وهم‏:‏ المحققون من الصوفية، فكلهم متفقون في الأذواق والوجدان، وإن اختلفت طرقهم، وكيفية سيرهم‏.‏ فهم متفقون في النهايات، التي هي معرفة الشهود والعيان، على طريق الذوق والوجدان، وفي ذلك يقول ابن البنا رحمه الله‏:‏

مَذاهبُ الناس على اختلاف *** ومذاهب القوم على ائتلاف

وأما قول من قال‏:‏ ‏[‏ما زالت الصوفية بخير ما اختلفوا، فإذا اتفقوا فلا خير فيهم‏]‏، فالمراد بالاختلاف‏:‏ تغيير بعضهم على بعض، عند ظهور نقص أو عيب أو ذنب‏.‏ فإذا اتفقوا وسكت بعضهم عن بعض فلا خير فيهم‏.‏ وقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «خلاف أمتي رحمة» المراد‏:‏ الاختلاف في الفروع كاختلاف المذاهب؛ ففي ذلك رخصة لأهل الاضطرار؛ لأن من قلد عالماً لقي الله سالماً‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏120‏]‏

‏{‏وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ‏(‏120‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ «وكُلاً» مفعول «نقص»، و«ما نثبت به»‏:‏ بدل، أو «ما» مفعول «نَقُصُّ»، و«كلا»‏:‏ مصدر‏.‏ أي‏:‏ ونقص‏.‏

علك كُلاً من الاقتصاص ما نثبت به فؤادك‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ وكل نبأ ‏{‏نقص عليك‏}‏ من أخبار الرسل، ونخبرك به ‏{‏ما نثبت به فؤادك‏}‏، ليزيدك يقيناُ وطمأنينة، وثباتاً بما تسمع من أخبارهم، وما جرى لهم مع قومهم، وما لقوا من الأذى منهم، فتتسلى بهم، وتثبت على أداء الرسالة، واحتمال أذى الكفار‏.‏ ‏{‏وجاءك في هذه‏}‏ السورة، أو الأنباء المقتصة عليك، ‏{‏الحق‏}‏ أي‏:‏ ما هو حق، ‏{‏وموعظة وذكرى للمؤمنين‏}‏ فيتحملون، ويصبرون لما يواجههم من الأذى والإنكار‏.‏

الإشارة‏:‏ ذكر أحوال الصالحين، وسيرهم وكراماتهم؛ جند من جنود القلب، وذكر أشعارهم ومواجيدهم جند من جنود الروح، وقد ورد‏:‏ أن عند ذكرهم تنزل الرحمة، أي‏:‏ رحمة القلوب باليقين والطمأنينة‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏121- 123‏]‏

‏{‏وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ ‏(‏121‏)‏ وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ‏(‏122‏)‏ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ‏(‏123‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم‏}‏‏:‏ حالهم، ‏{‏إنا عاملون‏}‏ على حالنا، ‏{‏وانتظروا‏}‏ وقوع ما نزل بمن قبلكم ممن خالف رسوله؛ فإنه نازل بكم، ‏{‏إنا منتظرون‏}‏ ما وعدنا ربنا من النصر والعز‏.‏

‏{‏ولله غيبُ السموات والأرض‏}‏ لا يعلمه غيره؛ فلا يعلم غيب العواقب، ووقت وقوع المواعد إلا هو‏.‏ ‏{‏وإليه يُرجع الأمرُ كلُّه‏}‏ فيرجع لا محالة أمرهم وأمرك إليه، ‏{‏فاعبدوه وتوكل عليه‏}‏؛ فإنه كافيك أمرهم وأمر غيرهم‏.‏ وفي تقديم العبادة على التوكل تنبيه على أنه إنما ينفع التوكل العابد دون البطال‏.‏ ‏{‏وما ربك بغافل عما تعملون‏}‏ أنت وهم، فيجازي كلاّ ما يستحقه‏.‏ أو عما يعمل الكافرون، فيمهلهم ولا يهملهم‏.‏

الإشارة‏:‏ ‏{‏فاعبده وتوكل عليه‏}‏‏:‏ يقول تعالى‏:‏ يا عبدي؛ قُم بخدمتي أقم لك بقسمتي، قف ببابي وانتسب لجنابي؛ أكفك شؤونك، وتكن من أحبابي‏.‏ أأدعوك لداري، وأمنعك من وجودي إبراري، أأكلفك بخدمتي، ولا أقوم لك بقسمتي، فثق بي كفيلاً، واتخذني، وكيلاً، أعطك عطاء جزيلاً، وأمنحك فخراً جليلاً‏.‏ قال القشيري‏:‏ ويقال‏:‏ إن التوكل‏:‏ سكون القلب بضمان الربِّ‏.‏ ويقال‏:‏ سكون الجأش في طلب المعاش، ويقال‏:‏ الاكتفاء بوعده عند عدم نَقْدِه، أو الا كتفاء بالوعد عند فقد النقد‏.‏ وسيأتي تمامه في سورة الفرقان، إن شاء الله‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏ وهو الهادي إلى سواء الطريق‏.‏ وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً‏.‏

سورة يوسف

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏

‏{‏الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ‏(‏1‏)‏ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ‏(‏2‏)‏ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآَنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ ‏(‏3‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏(‏قرآناً‏)‏‏:‏ حال، و‏(‏عربياً‏)‏‏:‏ نعت له، و‏(‏لعلكم‏)‏‏:‏ يتعلق بأنزلناه أو بعربياً‏.‏ و‏(‏أحسن‏)‏‏:‏ مفعول ‏(‏نَقُصُّ‏)‏، و‏(‏بما أوحينا‏)‏‏:‏ مصدرية، ويجوز أن يكون ‏(‏هذا القرآن‏)‏‏:‏ مفعول ‏(‏نَقُصُّ‏)‏، و‏(‏أحسن القصص‏)‏‏:‏ مصدر‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ أيها الرسول المجتبى، والمحبوب المنتقى ‏{‏تلك‏}‏ الآيات التي تُتلى عليك هي ‏{‏آيات الكتاب‏}‏ المنزل عليك من حضرة قدسنا، ‏{‏المبين‏}‏ أي‏:‏ الظاهر صدقه، الشهير شأنه‏.‏ أو الظاهر أمره في الإعجاز والبلاغة، الواضح معانيه في الفصاحة، والبراعة‏.‏ أو المبين للأحكام الظاهرة والباطنة‏.‏ أو البَينُ لمن تدبره أنه من عند الله‏.‏ أو المبين لمن سأل تَعنُّتاً من أحبار اليهود سؤالهم؛ إذ رُوي أنهم قالوا لكبراء المشركين‏:‏ سلوا محمداً‏:‏ لِمَ انتقلَ يعقوب من الشام‏؟‏ وعن قصة يوسف‏.‏ فنزلت السورة‏.‏

‏{‏إنا أنزلناه‏}‏ أي‏:‏ الكتاب، ‏{‏قرآناً‏}‏ أي‏:‏ مقروءاً، أو مجموعاً، ‏{‏عربياً‏}‏ بلغة العرب، ‏{‏لعلكم تعقلون‏}‏ أي‏:‏ أنزلناه بلغتكم كي تفهموه وتستعملوا عقولكم في معانيه؛ فتعلموا أن اقتصاصه كذلك ممن لم يتعلم القصص، ولم يخالط من يعلم ذلك، معجز؛ إذ لا يتصور إلا بالإيحاء‏.‏

‏{‏نحن نقصُّ عليك أحسن القَصَص‏}‏؛ أحسن الاقتصاص؛ لأنه اقتص على أبدع الأساليب، أو أحسن ما يُقص؛ لاشتماله على العجائب والحِكَمٍ والآيات والعِبَر، ‏{‏بما أوحينا إليك هذا القرآن‏}‏ مشتملاً على هذه السورة التي فيها قصة يوسف، التي هي من أبدع القصص، ‏{‏وإن كنتَ من قبله لَمِنَ الغافلين‏}‏ عن هذه القصة، لم تخطر ببالك، ولم تقرع سمعك‏.‏ قال البيضاوي‏:‏ وهو تعليل لكونه موحى، و«إنْ» هذه‏:‏ مخففة واللام هي الفارقة‏.‏ ه‏.‏

الإشارة‏:‏ ما نزل القرآن بلسان عربي مبين إلا لنعقل عظمة ربنا ونعرفه، وذلك لا يكون إلا بعد استعمال العقول الصافية، والأفكار المنورة، في الغوص على درر معانيه‏.‏ فحينئذٍ تطلع على أنوار التوحيد وأسرار التفريد، وعلى أنوار الصفات، وأسرار الذات، وعلى توحيد الأفعال وتوحيد الصفات، وتوحيد الذات‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 38‏]‏، لكن لا يحيط بهذا إلا أهل التجريد، الذين صفت عقولهم من الأكدار، وتطهرت من الأغيار، وملئت بالمعارف والأسرار‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏ليدبروا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو الألباب‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 29‏]‏‏.‏ وهم‏:‏ أهل العقول الصافية المتفرغة من شواغل الحس‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 6‏]‏

‏{‏إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ‏(‏4‏)‏ قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ ‏(‏5‏)‏ وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آَلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏6‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏(‏إذ قال‏)‏‏:‏ معمول لاذكر، أو بدل من ‏(‏أحسن القصص‏)‏؛ إن جعل مفعولاً، بدل اشتمال، و‏(‏يا أبت‏)‏‏:‏ أصله‏:‏ يا أبي، عوض من الياء تاء التأنيث؛ لتناسبهما في الزيادة، ولذلك قلبت في الوقف هاء، في قراءة ابن كثير وأبي عمر ويعقوب‏.‏ وإنما أعاد العامل في «رأيتهم»؛ لطول الكلام، وجمع الشمس والقمر والكواكب جمع العقلاء؛ لوصفهم بصفاتهم‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏إذ قال يوسفُ لأَبيهِ‏}‏ يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم‏:‏ ‏{‏يا أبتِ إني رأيتُ‏}‏ في النوم ‏{‏أحداً عَشَر كوكباً والشمسَ والقَمَرَ رأيتُهم لي ساجدين‏}‏‏.‏ وقد ذكر البيضاوي حديثاً في تفسير هذه الكواكب فانظره‏.‏ قيل‏:‏ إن يوسف عليه السلام كان نائماً في حجر أبيه، فنظر فيه، وقال في نفسه‏:‏ أترى هذا الوجه أحسن ام الشمس أم القمر‏؟‏ فإذا بيوسف قد انتبه من نومه، وقال‏:‏ ‏{‏يا أبتِ إني رأيت أحد عشر كوكباً‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الخ، فلما قص الرؤيا على أبيه بكى، فقال يوسف‏:‏ لم تبكي يا أبتي‏؟‏ قال‏:‏ يا بني لم يسجد مخلوق لمخلوق إلا عند المحنة، والبلاء، ألا ترى الملائكة لما أسجدهم الله لآدم، كيف ابتلي بالخروج من الجنة‏؟‏ ثم قال له‏:‏ يا بني، الشمس والقمر أنا وخالتك وكانت أمه قد ماتت والإحدى عشر كوكباً إخوتك‏.‏ ه‏.‏

‏{‏قال يا بنيَّ‏}‏، وهو تصغير ابن صغر للشفقة أو لصغر السن، وكان ابن ثنتي عشرة سنة، ‏{‏لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيداً‏}‏؛ فيحتالوا لإهلاكك حيلة‏.‏ فَهِمَ يعقوبُ عليه السلام من رؤياه أن الله يصطفيه لرسالته، ويفوقه على إخوته، فخاف عليه حسدهم‏.‏ ومن خاف من شيء سلط عليه‏.‏

والرؤيا تختص بالنوم، والرؤية، بالتاء بالبصر‏.‏ قال البيضاوي‏:‏ وهي انطباع الصورة المنحدرة من أفق المتخيلة إلى الحس المشترك، المصادفة منها إنما يكون باتصال النفس بالملكوت؛ لما بينهما من التناسب عند فراغها من تدبير البدن أدنى فراغ‏.‏ انظر تمامه فيه‏.‏ وأخرج الحاكم في المستدرك، والطبراني في الأوسط، عن ابن عمر قال‏:‏ لقي عمر عليَّاً رضي الله عنهما فقال‏:‏ يا أبا الحسن، الرجل يرى الرؤيا فمنها ما يصدق، ومنها ما يكذب، قال‏:‏ نعم‏.‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «ما من عبد ولا أمة ينام فيمتلي نوماً إلا عرج بروحه إلى السماء‏.‏ فالتي لا تستيقظ إلا عند العرش فتلك الرؤيا التي تصدقُ، والتي تستيقظ دون العرش فتلك الرؤيا التي تكذبُ» ه‏.‏ فمنها ما تكون واضحة المعنى لا تحتاج إلى تعبير، ومنها ما تكون خفية تحتاج إلى تعبير‏.‏ والمعبر يحتاج إلى علم وفراسة وزيادة إلهام، فعلم التعبير علم مستقل، وقد أعطى الله منه ليوسف عليه السلام حظاً وافراً‏.‏

ولما قال يعقوب لابنه‏:‏ ‏{‏لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيداً‏}‏ قال‏:‏ يا أبت، الأنبياء لا يكيدون، قال له‏:‏ ‏{‏إن الشيطان للإنسان عدو مبين‏}‏؛ ظاهر العداوة؛ لأجل ما فعل بآدم وحواء، فلا يألوا جهداً في تسويلهم وإثارة الحسد فيهم، حتى يحملهم على الكيد‏.‏ قيل‏:‏ لم يسمع كلام يوسف في رؤياه إلا خالته أم شمعون فقالت لإخوته‏:‏ التعب عليكم، والإقبال على يوسف‏.‏ فحركهم ذلك حتى فعلوا ما فعلوا‏.‏ وقيل‏:‏ أخبرت بذلك ولدها شمعون، فأخبر شمعون إخوته، فخلوا به وقالوا له‏:‏ إنك لم تكذب قط‏.‏ فأخبرنا بما رأيت في نومك، فأبى، فأقسموا عليه، فأخبرهم‏.‏ فوقعوا فيما فعلوا به‏.‏

ثم قال له‏:‏ ‏{‏وكذلك‏}‏ أي‏:‏ وكما اجتَباك لهذه الرؤية الدالة على شرف وعز وكمال نفس، ‏{‏يجتبيك ربُّك‏}‏ للنبوة والملك، أو لأمور عظام، ‏{‏ويُعلِّمك‏}‏ أي‏:‏ هو يعلمك ‏{‏من تأويل الأحاديث‏}‏؛ من تعبير الرؤيا؛ لأنها أحاديث المَلك إن كانت صادقة، وأحاديث الشيطان إن كانت كاذبة‏.‏ أو يعلمك من تأويل غوامض علوم كتب الله، وسنن الأبياء وحكم الحكماء‏.‏ ‏{‏ويُتمُّ نعمتَه عليك‏}‏ بالنبوة، أو بأن يجمع لك بين نعمة الدنيا، ونعمة الآخرة، ‏{‏وعلى آل يعقوب‏}‏ يريد‏:‏ سائر بنيه‏.‏ ولعله استدل على نبوتهم بضوء الكواكب، ‏{‏كما أتمها على أبويك من قبلُ‏}‏؛ من قبلك، أو من قبل هذا الوقت‏.‏ فأتمها على إبراهيم بالرسالة والخلة والإنجاء من النار، وإسحاق بالرسالة والإنقاذ من الذبح، وهم‏:‏ ‏{‏إبراهيمَ وإسحاقَ‏}‏، فهما عطف بيان لأبويك ‏{‏إن ربك عليمٌ‏}‏ بمن يستحق الاجتباء، ‏{‏حكيم‏}‏ لا يخلو فعله من حكمة، نعمة كانت أو نقمة‏.‏

الإشارة‏:‏ البداية مجلاة النهاية، يوسف عليه السلام نزلت له أعلام النهاية في أول البداية‏.‏ وكذلك كل من سبق له شيء من العناية، لا بد تظهر أعلامه في أول البداية؛ «من أشرقت بدايته أشرقت نهايته»‏.‏ من كانت بالله بدايته كانت إليه نهايته‏.‏

وأوصاف النهاية تأتي على ضد أوصاف البداية؛ فكمال العز في النهاية لا يأتي إلا بعد كمال الذل في البداية‏.‏ وتأمل قول الشاعر‏:‏

تَذَلَّلَ لِمَنْ تَهوَى لِتَكسِبَ عِزَّةً *** فَكَم عِزَّةٍ قَدْ نَالَها المرْء بِالذُّلِّ

وتأمل قضية سيدنا يوسف عليه السلام؛ ما نال العز والملك حتى تحقق بالذل، والملك وكمال الغنى في النهاية لا يأتي إلا بعد كمال الفقر في البداية، وكمال العلم لا يأتي إلا بعد إظهار كمال الجهل، وكمال القوة لا يأتي إلا بعد كمال الضعف‏.‏‏.‏ وهكذا جعل الله تعالى بحكمته الأشياء كامنة في أضدادها؛ «تحقق بأوصافك يمدك بأوصافه»‏.‏ فالاجتباء يكون بعد الابتلاء، وإتمام النعم يكون بعد تقديم النقم، وذلك لتكون أحلى وأشهى، فيعرف قدرها ويتحقق منه شكرها، وهذا السر في تقديم أهوال يوم القيامة على دخول الجنة؛ ليقع نعيمها في النفس كل موقع‏.‏ ولا فرق بين جنة الزخارف، وجنة المعارف‏.‏ ‏(‏حُفت الجنة بالمكاره، وحُفت النار بالشهوات‏)‏‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 8‏]‏

‏{‏لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آَيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ ‏(‏7‏)‏ إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏8‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏(‏يوسف‏)‏‏:‏ عجمي، وفي سينه ثلاث لغات‏:‏ الضم وهو الأشهر والفتح، والكسر‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏لقد كان في يوسف وإخوته‏}‏ أي‏:‏ في قصصهم ‏{‏آيات‏}‏؛ دلائل قدرة الله وحكمته، وعلامة نبوتك حيث أخبرتَ بها من غير تعلم‏.‏ ففي ذلك آيات ‏{‏للسائلين‏}‏ أي‏:‏ لمن سأل عن قصتهم‏.‏ والمراد بإخوته‏:‏ علاته العشرة، والعلات‏:‏ أبناء أمهات لأب واحد، فكانوا إخوته لأبيه، وهم‏:‏ يهوذا، ورَوْبيل، وشمعون، ولاوي، وريالون، ويشجر، ودينة من بنت خالته ليّا، تزوجها يعقوب أولاً، فلما توفيت تزوج راحيل، فولدت له بنيامين، ويوسف‏.‏ وقيل‏:‏ جمع بينهما، ولم يكن الجمع حينئذٍ محرماً‏.‏ وأربعة آخرون من سُريتَيْن، وهم‏:‏ دان، وتفثالى، وجاد، وآشر‏.‏

‏{‏إذ قالوا ليُوسفُ وأخوه‏}‏ بنيامين، وخُص بالإضافة؛ لأنه شقيقه، ‏{‏أحبُّ إلى أبينا منا ونحنُ عصبةٌ‏}‏ أي‏:‏ والحال أنا جماعة أقوياء، فنحن أحق بالمحبة؛ لأنهما لا كفاءة فيهما‏.‏ والعصبة‏:‏ العشرة ففوق‏:‏ ‏{‏إن أبانا لفي ضلالٍ‏}‏؛ خطأ ‏{‏مبين‏}‏؛ ظاهر؛ لتفضيل المفضول‏.‏ رُوي أنه كان أحب إليه؛ لما كان يرى فيه من مخايل الخير، وكان إخوته يحسدونه، فلما رأى الرؤيا ضاعف له المحبة، بحيث لم يصبر عنه، فتناهى حسدهم حتى حملهم على التعرض لقلته‏.‏ وهكذا شأن الحسد يبلغ بصاحبه امراً عظيماً‏.‏

الإشارة‏:‏ كان يعقوب عليه السلام لا يفارق يوسف ليلاً ولا نهاراً‏.‏ وهكذا شأن المحبين‏.‏ وأنشدوا‏:‏

وَلِي كَبِدٌ يَسرِي إِليهِم سَلاَمه *** بَجَمر تَلَظَّى، والفؤادُ ضِرامُه

وأجفَانُ عَين لا تَمَل من البُكَا *** وصَبٌّ تَشَكِّى للحبيب غَرَامُه

فأنتُم سُروري، أنتُم غَايةُ المنى *** وقَلبي إِليكم والغرامُ زِمامُه

فَوَالله ما أَحبَبتُ ما عِشتُ غَيرَكم *** لأن اشتياقي لا يحل اكتتامه‏.‏ ه‏.‏

قال الجنيد رضي الله عنه‏:‏ رأيت غلاماً حسن الوجه يعنف كهلاً حسناً، فقلت‏:‏ يا غلام، لِمَ تفعل هذا‏؟‏ قال‏:‏ لأنه يدعي أنه يهواني، ومنذ ثلاث ما رآني، قال‏:‏ فوقعت مغشياً علي، فلما أفقتُ ما قدرت على النهوض، فقيل لي في ذلك، فقلت‏:‏ ينبغي للمحب ألا يفارق باب محبوبه على أي حال‏.‏ وأنشدوا‏:‏

لاَزم البابَ إن عَشِقتَ الجَمَالا *** واهجُر النَّوم إنْ أردت الوِصَالا

واجعل الروحَ منك أَوَّل نَقدٍ *** لحبيبٍ أَنوارُه تَتَلالا

قلت‏:‏ فالحبيب غيور؛ لا يحب أن يرى في قلب حبيبه غيره‏.‏ فإذا رأى فيه شيئاً أخرجه منه، وفرق بينه وبينه؛ غيرةً منه واعتناء به، وهو السر في افتراق يوسف من أبيه‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 10‏]‏

‏{‏اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ ‏(‏9‏)‏ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ ‏(‏10‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ قال إخوة يوسف لما حركهم الحسد ‏{‏اقتلوا يوسف‏}‏؛ قيل‏:‏ إنما قاله شمعون ودان، ورضي به الآخرون، ‏{‏أو اطرَحُوهُ أرضاً‏}‏؛ أي‏:‏ في أرض بعيدة يأكله السباع، أو يلتقطه أحد، فإن فعلتم ‏{‏يَخلُ لكم وجهُ أبيكم‏}‏ أي‏:‏ يصفْ إليكم وجه أبيكم؛ فليقبل بكليته عليكم، ولا يلتفت عنكم إلى غيركم، ولا ينازعكم في محبته أحد، ‏{‏ولا تكونوا من بعده‏}‏؛ من بعد يوسف، أو الفراغ من أمره، أو قتله، أو طرحه، ‏{‏قوماً صالحين‏}‏ تائبين إلى الله عما جنيتم، مع محبة أبيكم‏.‏ أو صالحين في أمور دنياكم، فإنها تنتظم لكم بخلو وجه أبيكم لكم، ‏{‏قال قائل منهم‏}‏ هو يهوذا، وكان أحسنهم فيه رأياً، وقيل‏:‏ روبيل‏:‏ ‏{‏لا تقتلوا يوسف‏}‏؛ فإن القتل عظيم، ‏{‏وألقُوه في غيابه الجُبِّ‏}‏‏:‏ في قعره، سمي به لغيبته عن أعين الناظرين‏.‏ ومن قرأ بالجمع، فكان بتلك الجب غيابات، ‏{‏يلتقطْه‏}‏‏:‏ يأخذه ‏{‏بعضُ السيارة‏}‏ أي‏:‏ الذين يسيرون في الأرض، ‏{‏إن كنتم فاعلين‏}‏ ما يفرق بينه وبين أبيه ولا بد، أو كنتم فاعلين بمشورتي‏.‏

الإشارة‏:‏ إن أردت أن يخلو لك وجه قلبك فيخلو لك وجه حبيبك، حتى تشاهده عياناً وتعرفه إيقاناً، فاقتل كل ما يميل إليه قلبك ويعشقه من الهوى، واطرح عن عين بصيرتك رؤية السِّوى، ترى من أنوار وجهه، وأسرار محاسنه، ما تبتهج به القلوب والأسرار، وتتنزه في رياض محاسنه البصائر والأبصار، وأنشدوا‏:‏

إِنْ تَلاَشَى الكَون عَنْ عَينِ كَشفِي *** شَاهَدَ القلبُ غَيبَهُ في بَيَان

فَاطرحِ الكَون عن عِيَانِكَ وامْحُ *** نُقطَةَ الغَينِ إِن أَرَدتَ تَرَانِي

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 14‏]‏

‏{‏قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ ‏(‏11‏)‏ أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ‏(‏12‏)‏ قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ ‏(‏13‏)‏ قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏(‏تأمننا‏)‏‏:‏ اجتمع نونان، فيجوز الإدغام، وبه قرأ أبو جعفر، وقرأ الجماعة بالإشمام‏.‏ وقوله‏:‏ ‏(‏يرتع ويلعب‏)‏‏:‏ جواب الأمر، فمن قرأ بكسر العين فجزمه بحذف الياء، وهو من رعي الإبل، ومن قرأ بالإسكان فهو من الرتع، وهي الإقامة في الخصب والنعم، والتاء على هذا أصلية‏.‏ ووزن الفعل‏:‏ يفعل، ووزنه على الأول يفتعل، قال ابن عطية‏:‏ فيرتع على قراءة نافع من رعي الإبل، أي‏:‏ يتدرب في رعي الإبل وحفظ المال‏.‏ قال أبو علي‏:‏ وقراءة ابن كثير‏:‏ ‏(‏نرتع‏)‏ بالنون ‏(‏ويلعب‏)‏ بالياء، فنزعها حسن؛ لإسناد النظر في المال والرعاية إليهم، واللعب إلى يوسف لصباه، وقرأ أبو عمر وابن عامر‏:‏ ‏(‏نرتع ونلعب‏)‏؛ بالنون فيهما، وإسكان العين والباء، من الرتوع، وهو الإقامة في الخصب والمرعي في أكل وشرب، وقرأ عاصم والأخَوان‏:‏ ‏(‏يرتع ويلعب‏)‏ بإسناد ذلك كله إلى يوسف‏.‏ ه‏.‏ قلت‏:‏ وكذا قرأ نافع، غير أنه يكسر العين وهم يسكنون‏.‏

‏(‏ونحن عصبة‏)‏‏:‏ حال، والرابط الواو، والعصبة‏:‏ الجماعة من العشرة إلى فوق‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ قال إخوة يوسف لأبيهم‏:‏ ‏{‏يا أبانا مَا لَك لا تأمنّا على يوسف‏}‏ أي‏:‏ لم تخافنا عليه‏؟‏ ‏{‏وإنا له لناصحون‏}‏ نشفق عليه، ونريد له الخير‏.‏ أرادوا أن يستنزلوه عن رأيه في حفظه منهم لما تنسم من حسدهم‏.‏ قلت‏:‏ قد نصحوه في الحقيقة حيث تسببوا في ملكه وعزه‏.‏ رُوي أنهم لما قالوا له‏:‏ ‏(‏مالك‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الخ، اهتزت أركانه، واصفر لونه، واصطكت أسنانه، وتحركت جوانبه، كأنه علم بما في قلوبهم بالفراسة‏.‏ ثم قالوا‏:‏ ‏{‏أرسِله معنا غداً يرتع‏}‏‏:‏ يتسع في أكل الفواكه ونحوها‏.‏ أو يتعلم الرعاية، ‏{‏ويلعبُ‏}‏ بالاستباق والانتضال، ‏{‏وإنا له لحافظون‏}‏ أن يناله مكروه

‏{‏قال‏}‏ يعقوب‏:‏ ‏{‏إني ليحزنني أن تذهبوا به‏}‏ لشدة مفارقته عليَّ، وقلة صبري عنه، ‏{‏وأخافُ أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافِلُون‏}‏‏:‏ لاشتغالكم بالرتع واللعب، أو لقلة اهتمامكم به، وإنما خاف عليه من الذيب، لأن الأرض كانت مذأبة، وقيل‏:‏ رأى في المنام أن الذئاب أحدقت بيوسف، فكان يخافه، وإنما كان تأويلها‏:‏ إحداق إخوته به حين أرادوا قتله‏.‏ ‏{‏قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة‏}‏‏:‏ جماعة، ‏{‏إنا إذا لخاسرون‏}‏‏:‏ مغبرنون من القوة والحزم، أو مستحقون بأن يدعى عليهم بالخسارة‏.‏

الإشارة‏:‏ لم يسمح يعقوب عليه السلام بفراق حبيبه ساعة، وكذلك العبد لا ينبغي أن يغفل عن سيده لحظة؛ لأن الغفلة فراق، والذكر انجماع، والعبد لا صبر له عن سيده‏.‏ وأنشدوا‏:‏

فلأَبكيَن على الفراق كما بكى *** سفا لفُرقةِ يوسفٍ يعقوبُ

وَلأَدعُوَنَّكَ في الظلام كما دعا *** عند البلية رَبّةُ أيوبُ

وأنشدوا أيضاً في ذم الغفلة‏:‏

غَفَلتَ عَنِ الأَيَّامِ يا أَخي فَانتَبِهْ *** وَشَمِّرْ فإن الموتَ لا شك واقعْ

على أي شيءٍ هو حزنك قائم *** جنود المنايا تأتيك فانهض وسارعْ

قيل‏:‏ إن بعض الصالحين رأى أستاذه في المنام، فقال له‏:‏ يا أستاذ، أي الحسرات عندكم أعظم‏؟‏ قال‏:‏ حسرة الغافلين، وأنشدوا‏:‏

تيقظ إلى التِّذكارفالعمر قد مضى *** وحتى مَتَى ذا السكرُ من غفلة الهوى

ورأى ذو النون المصري بعض الصالحين في المنام، فقال له‏:‏ ما فعل الله بك‏؟‏ قال‏:‏ أوقفني بين يديه، وقال‏:‏ يا مدعي، ادعيت محبتي ثم غفلت عني‏.‏ وأنشدوا‏:‏

تغافلت عن فهم الحقيقة بالهوى *** فلا أُذنٌ تُصغِي ولا عينٌ تَذرِفُ

ضعفت ولكن في أمانيك قوةٌ *** فيا تابعَ اللذاتِ كم تتخلفُ

ورأى عبد الله بن مسلمة والده في النوم، فقال له‏:‏ يا أبت، كيف ترى حالك‏؟‏ فقال له‏:‏ يا ولدي عشنا غافلين‏.‏ وأنشدوا‏:‏

غفلتَ وحادِي الموتِ يحدوك للبِلاَ *** وجسمك يا مغرور أصبح معتلا

وحتى متى يا صاح بابك مغلق *** أتاك نذير الموت والعمر قد ولّى

وقيل‏:‏ ما أصاب يعقوب ما أصابه في ولده إلا من أجل خوفه عليه، وغفلته عن استيداعه ربه، ولو استودعه ربه لحفظه‏.‏ لكن لا ينفع حذر من قدر‏.‏ ‏(‏وكان أمر الله قدراً مقدوراً‏)‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 18‏]‏

‏{‏فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏15‏)‏ وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ ‏(‏16‏)‏ قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ ‏(‏17‏)‏ وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ‏(‏18‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏(‏لمّا‏)‏ حرف وجود لوجود، يطلب الشرط والجواب، وجوابها هنا محذوف، أي‏:‏ فعلوا به ما فعلوا‏.‏ وقيل‏:‏ جوابها‏:‏ ‏(‏أجمعوا‏)‏، وقيل‏:‏ ‏(‏أوحينا‏)‏ على زيادة الواو فيهما‏.‏ وجملة‏:‏ ‏(‏وهم لا يشعرون‏)‏‏:‏ حال من ‏(‏تنبئنهم‏)‏، فيكون خطاباً ليوسف عليه السلام، أو من ‏(‏أوحينا‏)‏؛ أي‏:‏ وهم لا يشعرون حين أوحينا إليه‏.‏ فيكون حينئذٍ الخطاب لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، و‏(‏صبر جميل‏)‏‏:‏ مبتدأ، والخبر محذوف، أي‏:‏ مثل‏.‏ أو‏:‏ خبر عن مبتدأ، أي‏:‏ أمري صبر جميل‏.‏ و‏(‏على قميصه‏)‏‏:‏ في موضع نصب على الظرف، أي‏:‏ فوق قيمصه‏.‏ أو‏:‏ حال من الدم؛ إن جوز تقديمها على المجرور‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ فلما ذهبوا بيوسف معهم ‏{‏وأجْمَعُوا‏}‏ أي‏:‏ عزموا ‏{‏أن يجعلوه في غيابات الجُبِّ‏}‏؛ وهو بئر بأرض الأردن، أو بين مصر ومدين، أو على ثلاثة فراسخ من مقام يعقوب‏.‏

قال الفراء‏:‏ كان حفره شداد بن عاد‏.‏ فانظره‏.‏ قال السدي‏:‏ ذهبوا بيوسف وبه عليهم كرامة، فلما برزوا في البرية أظهروا له العداوة، وجعل أخوه يضربه فيستغيث بالآخر فيضربه، فجعل لا يرى منهم رحيماً‏.‏ فضربوه حتى كادوا يقتلونه، فجعل يصيح‏:‏ يا أبتاه، يا يعقوب، لو تعلم ما صنع بابنك بنو الإماء‏.‏ ه‏.‏ وكان إخوته سبعة من خالته الحرة، والباقون من سريتين له، كما تقدم‏.‏

وقال ابن عباس رضي الله عنه‏:‏ كان يعقوب عليه السلام ينظر إلى يوسف عليه السلام حتى غاب عنه، وعن نظره، فلما علموا أنهم غيبوه عنه، وضعوه في الأرض وجروه عليها، ولطموا خده، فجرد شمعون سكينه وأراد ذبحه، فتعلق بذيل روبيل وضربه، وكذلك جيمع إخواته؛ إذا لجأ لواحد منهم طرده، فضحك عند ذلك يوسف عليه السلام فقال له يهوذا‏:‏ ليس هذا موضع الضحك يا يوسف، فقال‏:‏ من تعزز بغير الله ذل، ظننت أنه لا يصيبني وأنا بينكم مكروه لما رأيت من قوتكم وشدتكم، فسلطكم الله علي بشؤم تلك الفكرة؛ حتى لا يكون التوكل إلا عليه والتعزز إلا به‏.‏ ه‏.‏ بالمعنى‏.‏

وقال الفراء‏:‏ كانت زينب بنت يعقوب عليه السلام أخت يوسف وكانت رأت في منامها كان يوسف وضع بين الذئاب وهم ينهشون، فانتبهت فازعة، ومضت إلى أبيها باكية، فقالت‏:‏ يا أبت، أين أخي يوسف‏؟‏ قال‏:‏ أسلمته إلى إخواته، فمضت خلفه حتى لحقت به، فأمسكته، وتعلقت بذيله، وقالت‏:‏ لا أفارقك اليوم يا أخي أبداً، فقال لها إخوتها‏:‏ يا زينب، أرسليه من يدك، فقالت‏:‏ لا أفعل ذلك أبداً؛ لأني لا أطيق فراق أخي، فقالوا‏:‏ بالعشي نرده إليك ويأتيك‏.‏ ثم أقبل يوسف عليه السلام يقبل رأسها ويديها، ويقول لها‏:‏ يا أختاه دعيني أسير مع إخوتي أرتع وألعب، فذهب، وجلست تشيعه بعينها، ودموعها تتناثر مما رأت؛ خوفاً عليه‏.‏

ه‏.‏

فلما غابوا به عنها فعلوا به ما تقدم، وهموا بقتله، فقال لهم يهوذا‏:‏ أما عاهدتمُوني ألا تقتلوه؛ فأتوا به إلى البئر فدلوه فيها فتعلق بشفيرها، فربطوا يده، ونزعوا قميصه ليلطخوه بالدم، ويحتالوا به على أبيهم، فقال‏:‏ يا إخوتاه رُدّوا عليّ قميصي أتوارى به، فقالوا‏:‏ ادعُ الأحد عشر كوكباً والشمس والقمرَ يلبسوك ويؤنسوك‏.‏ فلما بلغ نصفها ألقوه، وكان فيها ماء، فسقط، ثم آوى إلى الصخرة كانت فيها فقام عليها يبكي، فجاءه جبريل بالوحي، كما قال‏:‏ ‏{‏وأوحينا إليه‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الخ‏.‏ وكان ابن سبع عشرة سنة، وقيل‏:‏ كان مراهقاً‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ كان ابن سبع سنين، وأوحي إليه في صغره كما أوحي إلى يحيى وعيسى عليهما السلام‏.‏

وفي القَصَص‏:‏ أن إبراهيم عليه السلام، حين ألقي في النار، جُرد من ثيابه، فأتاه جبريل بقميص من حرير الجنة فألبسه إياه، فدفعه إبراهيم إلى إسحاق، وإسحاق إلى يعقوب، فجعله في تميمة علقها على يوسف، فأخرجه جبريل وألبسه يوسف‏.‏

ثم قال له فيما أوحي إليه‏:‏ ‏{‏لتنبئنهم‏}‏ أي‏:‏ لتحدثنهم ‏{‏بأمرهم هذا‏}‏؛ بما فعلوا بك، ‏{‏وهم لا يشعرون‏}‏ أنك يوسف، لعلو شأنك وبعده عن أوهامهم، وطول العهد المغير للحال والهيئات‏.‏ وذلك إشارة إلى ما قال لهم بمصر، حين دخلوا عليه ممتارين، فعرفهم وهم له منكرون، إلى أن قال لهم‏:‏ ‏{‏هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 89‏]‏‏.‏ وفي رواية‏:‏ أوحى إليه‏:‏ يا يوسف لا تحزن على ما أصابك، فإنك تصل إلى ملك كبير، ويقف إخوتك بين يديك‏.‏ بشره بما يؤول إليه أمره، أيناساً وتطبيباً لقلبه‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏وهم لا يشعرون‏}‏ متصل بقوله‏:‏ ‏{‏وأوحينا‏}‏ أي‏:‏ آنسناه بالوحي وهم لا يشعرون ذلك‏.‏

‏{‏وجاؤوا أباهم عِشَاءَ‏}‏ آخر النهار، وقرئ ‏{‏عُشي‏}‏ بضم العين والقصر، جمع أعشى، أي‏:‏ عُشي من البكاء‏.‏ فجاؤوا إليه ‏{‏يبكُون‏}‏ أي‏:‏ متباكين‏.‏ روي أنه لما سمع بكاءهم فزع وقال‏:‏ يا بني، أين يوسف‏؟‏ فقالوا‏:‏ ‏{‏يا أبانا إنا ذهبنا نستبق‏}‏؛ أي‏:‏ نتسابق بأقدامنا في العَدْو، أو الرمي ‏{‏وتركنا يوسفَ عند متاعنا فأكله الذئبُ وما أنت بمؤمنٍ لنا‏}‏‏:‏ بمصدق لنا، ‏{‏ولو كنا صادقين‏}‏؛ لسوء ظنك، وفرط محبتك ليوسف‏.‏

‏{‏وجاؤوا على قميصه‏}‏‏:‏ فوق قميصه ‏{‏بدم كذبٍ‏}‏، أي‏:‏ ذي كذب بمعنى مكذوب فيه؛ لأنهم ذبحوا جدياً ولطخوا قميصه بدمه‏.‏ رُوي أنه لما سمع بخبر يوسف صاح ودعا بقميصه فأخذه، وألقاه على وجهه، وبكى حتى خضب وجهه بدم القميص، وقال‏:‏ ما رأيت كاليوم ذئباً أحلم من هذا‏!‏ أكل ابني ولم يمزق عليه قميصه‏.‏

وفي رواية أخرى‏:‏ أنه لما رأى صحة القميص ضحك، فقالوا له‏:‏ الضحك والبكاء من فعل المجانين‏!‏ فقال‏:‏ أما بكائي فعلى يوسف لما رأيت الدم، وأما ضحكي، فإني لما رأيت صحة القميص رجوت أن الحديث غير صحيح، ولذلك ‏{‏قال بل سولتْ لكم أنفسكم أمراً‏}‏ أي‏:‏ سهلت لكم، وهونت في أعينكم أمراً عظيماً حتى أقدمتم عليه‏.‏

وقيل‏:‏ لما سمع مقالهم غشي عليه إلى الصباح، وهم يبكون بأجمعهم، ويقولون بينهم‏:‏ بئس ما فعلناه بيوسف ووالده، وأي عذر لنا عند الله‏.‏ فلما أفاق نظر إلى أولاده، وقال‏:‏ هكذا يا أولادي كان ظني فيكم، بئس ما فعلتم، وبئس ما سولت لكم أنفسكم ‏{‏فصبر جميل‏}‏ أي‏:‏ فأمري صبري جميل‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «الصبرُ الجميل الذي لا شكوى فيه إلى الخلق» ‏{‏واللَّهُ المستعانُ على ما تصفون‏}‏ أي‏:‏ على احتمال ما تصفونه من هلاك ابني يوسف‏.‏ وهذه الجريمة كانت قبل استنبائهم، إن صح أنهم تنبأوا‏.‏ وقد تقدم في سورة البقرة الخلاف في نبوة الأسباط فراجعه‏.‏

الإشارة‏:‏ في هذه الآية رجاء كبير لأهل العصيان، وبشارة وتأنيس لمن أراد مقام الإحسان بعد الإساءة والغفلة والنسيان، وذلك أن هؤلاء السادات فعلوا بيوسف عليه السلام ما فعلوا، فلما تابوا بعد هذا الفعل العظيم اجتباهم الحق تعالى، وتاب عليهم، وقربهم حتى صاروا أنبياء، على حد قول بعض العلماء‏.‏ ولذلك قيل‏:‏ ‏[‏كم من خصوص خرجوا من اللصوص، وكم من عابد ناسك خرج من ظالم فاتك‏]‏‏.‏ وفي الحكم‏:‏ «من استغرب أن ينقذه الله من شهوته، وأن يخرجه من وجود غفلته، فقد استعجز القدرة الإلهية، وكان الله على كل شيء مقتدراً»‏.‏ وللشافعي رضي الله عنه‏:‏

فَلما قَسَا قَلبي وَضَاقَت مَذَاهِبِي *** جَعَلتُ الرَجَا منِّي لِعَفْوكَ سُلَّمَا

تَعَاظَمَني ذَنبِي فَلَمَّا قَرَنتُهُ *** بِعفوكَ رَبِّي كَانَ عَفوُكَ أَعظَمَا

وهذا إنما يكون بالتوبة النصوح، والنهوض التام، والمجاهدة الكبيرة، كما فعل إبراهيم بن أدهم، والفضل بن عياض، والشيخ أبو يعزى، وغيرهم ممن كانوا لصوصاً فصاروا خصوصاً‏.‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «مَن لَم يَغلِب نَفسَه وَهَواه فَليس لَهُ حَظٌ في عُقبَاه» وأنشدوا‏:‏

جَنَينَا على النَّفس الَّتي لَك رُشدُها *** بِطبْعِ الهَوى فِيها وَتِيهٍ مَن الحِجا

جَزَى الله خَيراً مَن أَعَدَّ لِدَائهِ *** دَوَاءَ التُقَى فَاستَعمَلَ الخَوفَ والرَّجَا

جَبَانٌ وتَرجُوا أن تُلقَّبَ فَارساً *** مَتَى شَابه العَضبُ اليَمَانيُّ دُملَجَا

وفيها أيضاً‏:‏ تنويه بمقام الصابرين وعاقبة المتقين، فإن يعقوب عليه السلام، لما استعمل الصبر الجميل، جمع الله شمله بولده مع ما أعد له من الثواب الجزيل‏.‏ ويوسف عليه السلام، لما صبر على ما أصابه من المحن؛ عوضه العز الدائم بترادف المنن‏.‏ وفي الخبر‏:‏ «أعلى الدرجات درجات الصابرين»‏.‏ لكل عمل ثواب محدود، وثواب الصابرين غير محدود ولا معدود‏.‏ قيل‏:‏ إن الله تعالى أعطى لكل صابر قصراً في الجنة مسيرة الشمس أربعين يوماً، من درة بيضاء معلقة في الهواء، ليس تحته دعامة، ولا فوقه علاقة، وله أربعة آلاف باب، يدخل من كل باب سبعون ألف ملك، يسلمون على صاحبه ولا ترجع النوبة إليهم أبداً‏.‏ ه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏19- 22‏]‏

‏{‏وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ‏(‏19‏)‏ وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ ‏(‏20‏)‏ وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏21‏)‏ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ‏(‏22‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏(‏بضاعة‏)‏‏:‏ حال من المفعول، أي‏:‏ وأخفوه مبضعاً به للتجارة‏.‏ و‏(‏لنعلمه‏)‏‏:‏ عطف على محذوف، أي‏:‏ مكناه في الأرض ليتصرف فيها بالعدل ولنعلمه‏.‏ إلخ‏.‏ و‏(‏دراهم‏)‏‏:‏ بدل من ‏(‏ثمن‏)‏‏.‏ قال الهروي‏:‏ الأَشُدَّ‏:‏ من خمسة عشر إلى أربعين سنة‏.‏ وهو جمع شدة، مثل‏:‏ نعمة وأنعم، وهي‏:‏ القوة والجلادة في البدن والعقل‏.‏ ه‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏وجاءت سيارة‏}‏؛ رفقة تسير من مدين إلى مصر، فنزلوا قريباً من الجب، وكان ذلك بعد ثلاث من إلقائه فيه‏.‏ ‏{‏فأرسلوا واردَهم‏}‏ الذي يرد الماء، ويستقي لهم، وهو‏:‏ مالك بن ذعر الخزاعي، ‏{‏فأدلى دلوه‏}‏ أرسلها في الجب ليملأها، فتعلق بها يوسف، فلما رآه، ‏{‏قال يا بشرى هذا غلام‏}‏؛ نادى البشرى، بشارة لنفسه، أو لقومه، كأنه قال‏:‏ تعالِ هذا أوانك‏.‏ وقيل‏:‏ اسم لصاحبه، ناداه ليعينه على إخراجه فأخرجوه، ‏{‏وأسروه‏}‏ أي‏:‏ أخفاه الوارد، وأصحابه عن الرفقة، وقالوا‏:‏ دفعه إلينا أهل الماء لنبيعه بمصر، حال كونه ‏{‏بضاعة‏}‏؛ أي‏:‏ متاعاً مبضعاً به للتجارة، أي‏:‏ يباع ويتجر بثمنه‏.‏ ‏{‏والله عليم بما يعملون‏}‏ لم يخف عليه اسرارهم‏.‏

‏{‏وشَرَوه‏}‏ أي‏:‏ باعه السيارة من الرفقة، أو إخوته، فيكون الضمير راجع لهم‏.‏ رُوي أن يهوذا كان يأتيه كل يوم بالطعام، فأتاه يومئذٍ فلم يجده فيها، وأخبر إخوته فأتوا الرفقة، وقالوا‏:‏ هذا غلامنا فاشتروه، وسكت يوسف خوفاً من أن يقتلوه‏.‏ أو اشتروه من إخوته؛ لأن شرى قد يستعمل بمعنى اشترى‏.‏ فاشتراه الرفقة منهم ‏{‏بثمن بَخْسٍ‏}‏؛ أي‏:‏ مبخوس، لزيفه أو نقصانه، ‏{‏دراهم مَعدودةٍ‏}‏ قليلة، فإنهم يَزنُون ما بلغ الأوقية، ويعدُّون ما دونها‏.‏ قيل‏:‏ كان عشرين درهماً‏.‏ وقيل‏:‏ اثنين وعشرين‏.‏ رُوي أن الذي اشتراه منهم مالك بن ذعر المتقدم، وكان صعلوكاً، فسأل يوسف أن يدعو له فدعا له فصار غنياً‏.‏ رُوي أنه قال لهم‏:‏ بكم تبيعونه‏؟‏ فقالوا له‏:‏ إن اشتريته بعيوبه بعناه لك‏.‏ فقال‏:‏ وما عيوبه‏؟‏ فقالوا‏:‏ سارق كذاب، يرى الرؤيا الكاذبة‏.‏ فقال لهم‏:‏ بكم تبيعونه لي مع عيوبه‏؟‏ ويوسف عليه السلام ينظر إليهم ولا يتكلم، وهو يقول في نفسه‏:‏ ما أظنه يقوم بثمني؛ لأنهم يطلبون أموالاً كثيرة‏.‏ قال لهم مالك‏:‏ معي دراهم قليلة تعد ولا توزن، فقالوا له‏:‏ هاتها‏.‏ فاشتراه منهم بتلك الدراهم المعدودة‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ كانت سبعة عشر درهماً، جعل له ذلك جزاء لما قوم نفسه، وظن أنهم يطلبون في الأموال‏.‏ ه‏.‏ ‏{‏وكانوا فيه من الزاهدين‏}‏‏:‏ الراغبين عنه‏.‏ يحتمل أن يكون الضمير لإخوته، وزهدهم فيه ظاهر‏.‏ أو يكون للرفقة فإن بائعين كانوا بائعين فزهدهم فيه لأنهم التقطوه والملتقط للشيء متهاون به خائف من انتزاعه، وإن كانوا مبتاعين فلأنهم اعتقدوا أنه آبق‏.‏

قال الفراء‏:‏ لما اشتراه منهم مالك، قال لهم‏:‏ اكتبوا لي كتاباً بخطكم بأنكم بعتم مني هذا الغلام بكذا وكذا، فكتبوا له ذلك، فلما أراد الرحيل قالوا له‏:‏ اربطه لئلا يهرب، فلما همَّ بربطه قال له يوسف‏:‏ خلني أودِّع ساداتي؛ فَلَعَلَّي لا ألقاهم بعد هذا اليوم‏.‏

فقال له مالك‏:‏ ما أكرمك من مملوك، حيث يفعل بك هذا وأنت تتقرب منهم‏.‏ فقال له يوسف‏:‏ كل أحد يفعل ما يليق به، فقال له‏:‏ دونك، فقصدهم وهُم قيام صفاً واحداً، فلما دنا منهم بكوا وبكى يوسف عليه السلام، ثم قالوا‏:‏ والله لقد ندمنا يا يوسف على ما فعلنا، ولولا الخشية من والدنا لرددناك‏.‏ ه‏.‏ ثم ذهبوا به إلى مصر فباعوه، فاشتراه العزيز الذي كان خزائن مصر‏.‏ واسمه‏:‏ «قطفير»، وكان المَلِك يومئذٍ «ريان بن الوليد العلقمي»، وقد آمن بيوسف، ومات في حياته‏.‏

‏{‏وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته‏}‏ راعيل، أو زليخا، ‏{‏أكرمي مثواه‏}‏؛ اجعلي مقامه عندنا كريماً، والمعنى‏:‏ أحسني تعهده، ‏{‏عسى أن ينفعنا‏}‏ في ضِياعنا وأموالنا، نستظهر به في مصالحنا، ‏{‏أو نتخذه ولداً‏}‏ أي‏:‏ نتبنَّاه، وكان عقيماً، لما تفرس فيه من الرشد‏.‏ ولذلك قيل‏:‏ ‏(‏أفرس الناس عزيز مصر، وابنة شعيب التي قالت‏:‏ ‏{‏ياأبت استأجره‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 26‏]‏، وأبو بكر حين استخلف عمر‏)‏‏.‏

قال البيضاوي‏:‏ رُوي أنه اشتراه العزيز وهو ابن تسع عشرة سنة، ولبث في منزله ثلاث عشرة سنة، واستوزره الريان وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، وتوفي وهو ابن مائة وعشرين سنة‏.‏ واختلف فيما اشتراه به مَنْ جعل شراءً غير الأول، فقيل‏:‏ عشرون ديناراً، وزوجاً نعل، وثوبان أبيضان‏.‏ وقيل‏:‏ ملؤه أي وزنه فضة، وقيل‏:‏ ذهباً‏.‏ ه‏.‏ وقيل‏:‏ مسكاً وحريراً‏.‏

‏{‏وكذلك مكَّنَّا ليوسف في الأرض‏}‏ أي‏:‏ وكما مكنا محبته في قلب العزيز، أو كما مكناه في منزله، أو كما أنجيته، وعطفنا عليه العزيز مكناه في الأرض، ليتصرف فيها بالعدل، ‏{‏ولنُعلِمَهُ من تأويل الأحاديث‏}‏؛ أي‏:‏ من تأويل كتب الله المتقدمة، أو من تأويل الأحكام الحادثة بين الناس ليحكم فيها بالعدل، أو من تعبير المنامات، ليستعد لها قبل حلولها‏.‏ أي‏:‏ كان القصد في إنجائه وتمكينه‏:‏ إقامته العدل، وتْيسير أمور الناس، وليعلَمَ معاني كُتب الله وأحكامه فينفذها، ‏{‏والله غالبٌ على أمره‏}‏‏:‏ لا يرده شيء، ولا ينازعه فيما يريد جبار، ولا عنيد، أو غالب على أمر يوسف، فيدبر أمره بالحفظ والرعاية، والنصر والعز في عاقبة أمره، خلاف ما أراد به إخوته، ‏{‏ولكن أكثر الناس لا يعلمون‏}‏ أن الأمر كله بيده، أو لا يفهمون لطائف صنعه، وخفايا لطفه‏.‏

‏{‏ولما بلغ أشده‏}‏؛ منتهى اشتداد جسمه، وكمال عقله‏.‏ وتقدم تفسير الهروي له، وحده‏.‏ وقيل‏:‏ ما بين الثلاثين والأربعين، ‏{‏آتيناه حكماً‏}‏‏:‏ حكمة، وهي النبوة‏.‏ أو العلم المؤيد بالعمل‏.‏ أو حُكماً بين الناس بالعدل‏.‏

‏{‏وعلماً‏}‏ يعني‏:‏ علم تأويل الأحاديث، أو علماً بأسرار الربوبية، وكيفية آداب العبودية‏.‏ ‏{‏وكذلك نجزي المحسنين‏}‏ إذا كمل عقلهم، وتوفر آدابهم، وكمل تهذيبهم، آتيناهم الحكمة وكمال المعرفة‏.‏ وفيه تنبيه على أنه تعالى إنما آتاه ذلك جزاء على إحسانه وإتقانه عمله في عنفوان شبابه‏.‏

اَلإشارة‏:‏ من ظن انفكاك لطف الله عن قدره؛ فذلك لقصور نظره، لا سيما لطفه بالمتوجهين إليه، أو العارفين به الواصلين لحضرته‏.‏ فكل ما ينزل بهم فإنما هو أقدار جارية، وأمداد سارية، وأنوار بهية، وألطاف خفية، تسبق لهم الأنوار قبل نزول الأقدار، فلا تحول حول قلوبهم الأكدار، ولا تغير قلوبَهم رؤية الأغيار، عند نزول شدائد الأقدار، يحفظ عليهم أسرار التوحيد، وينزل عليهم أنوار التأييد، عند نزول القضاء الشديد، والبلاء العتيد، ولابن الفارض رضي الله عنه‏:‏

أَحبائِي أَنتُم، أَحْسَنَ الدَّهرُ أم أَسا *** فَكُونُوا كما شِئتُمُ أَنا ذَلك الخِل

وقال صاحبه العينية‏:‏

تَلَذُّ لِي الآلام إذ كُنتَ مُسْقِمَِي *** وإن تَختَبِرني فَهْي عَندي صَنَائِعُ

تَحِكَّم بِِما تَهواهُ فيَّ فإِنَّني *** فَقِيرٌ لسُلطَان المَحَبَّة طَائِعُ

وقد جرت عادة الله تعالى أن يعقب الجلال بالجمال، والمحن بالمنن، والذل بالعز، والفقر بالغنى، فبقدر ما تشتد المحن تأتي بعدها مواهب المنن، ما ينزل من الجلال يأتي بعده الجمال، سُنة الله في خلقه، ولن تجد لسنة الله تبديلاً‏.‏ لا راد لما قضى، ولا معقب لما به حكم وأمضى‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏{‏والله غالبٌ على أمره‏}‏‏:‏ قال بعض المفسرين‏:‏ هذه الآية هي قطب هذه السورة، ثم قال‏:‏ أراد آدم البقاء في الجنة، وما أراد الله ذلك، فكان الأمْر مُراد الله‏.‏ وأراد إبليس أن يكون رأس البررة الكرام، وأراد الله أن يكون إمام الكفرة اللئام، فكان الأمر كما أراد الله‏.‏ وأراد النمرود هلاك إبراهيم عليه السلام، ولم يرده الله، فكان الأمر كما أراد الله‏.‏ وأراد فرعون هلاك موسى عليه السلام، فأهلكه الله، ونجى موسى‏.‏ وأراد داود أن يكون الملك لولده ميشا، وأراد الله أن يكون لسليمان عليه السلام، فكان كما أراد الله‏.‏ وأرد أبو جهل هلاك سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم ونبوة الوليد بن المغيرة، فأهلك الله أبا جهل ونبأ محمداً صلى الله عليه وسلم‏.‏ وأراد المنذر بن عاد البقاء في الدنيا، فأهلكه الله وخرب ملكه‏.‏ وأراد إرم العاتي، الذي بنى ذات العماد، يحاكي بها الجنة، أن يسكنها خالداً فيها، فكذبه الله، وحال بينه وبينها، وغيبها عنه حتى مات بحسرتها‏.‏ ه‏.‏